الحرية والمسؤولية من مرتكزات عصر الرسالة (2) 1


من مظاهر المشروع التحرري الإسلامي، ذلك التوجه الإنساني الذي لا يفرق بين الناس من خلال معتقداتهم وجنسياتهم  في قوله تعالى : {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}( النساء : 56).

وفي الوثيقة التاريخية التي يجب الاعتزاز بها وهي قول عمر (ض) لأبي موسى الأشعري : ” آس – سو ، اجعل كل واحد أسوة الآخر – بين الناس في مجلسك و وجهك  حتى لا يطمع شريف في حيفك و لا يخاف ضعيف من جورك ”  (من رسالة عمر  ] إلى أبي موسى الأشعري: الجاحظ: البيان والتبين مجلد1ج 2 ص64 دار الفكر للجميع 1968) هذه الوصية التي كان لها الأثر البليغ في مرحلة التخلق التحرري الإسلامي . وهكذا فإن الحكم الإسلامي ديموقراطي مصدرا وعملا ، والإسلام يتضمن كل سمات الديموقراطية السياسية المانحة للفرد المسؤولية في تأسيس الحكم وضمانات لازمة تحميه من جور الحاكم وظلمه ، في الوقت الذي نجد فيه أن تجربة الديموقراطية السياسية في العالم منذ الثورة الفرنسية كانت دائما تدلنا على ضعف حريات الفرد ، رغم البريق المحيط بها ، ويظهر ذلك جليا من خلال صيرورة ” المواطن الحر ” عبدا مجهولا لمصالح كبيرة ، كما يظهر أن البلاد التي يحدث فيها التباين بين القيم السياسية والاجتماعية تعاني من صراع الطبقات الذي قد ينتهي بتحقيق الضمانات الاجتماعية على حساب الحريات السياسية كما حدث في الدول الاشتراكية ، وعليه ، فالإسلام ” يبدو وكأنه جمع موفق بين مزايا الديموقراطية السياسية والديموقراطية الاجتماعية ” (تأملات مالك بن نبي ص84) التي تهدف إلى توزيع الثروة حتى لا تكون دولة بين الأغنياء و المترفين .

ولذلك كانت الزكاة أساسا تشريعيا اجتماعيا عاما ، بمقتضاه يتم  اقتطاع جزء من أموال الأغنياء ورده إلى الفقراء. وفي ذلك تدبير اجتماعي لم تستطع الاشتراكية الوصول إليهحتى في أرقى تطبيقاتها.

إن الإسلام يدين كل الطفيليات ، وكل الطواغيت بما فيها الطاغوت السياسي والاقتصادي والديني ( على شاكلة نظام الإكليروس) ، يدين كل ذلك باعتباره يقضي على الجانب الاجتماعي في السياسة الإسلامية حتى لا يقع المسلم في وضع العبد الذي تستعبده الأوضاع الاقتصادية أو أن يصبح مستبدا وبيده صولجان الذهب والمال.

وهكذا يتبين أن المبادئ التي قررها الإسلام في المجال السياسي والمجال الاجتماعي والاقتصادي كانت  أساس ما يمكن أن نطلق عليه ” الديموقراطية الإسلامية ”  والتي قد تحققت فعلا في واقع المسلمين ، وقد كان أثرها حقيقيا في سلوك الأفراد وفي أعمال الحكم على الأقل في فترة التخلق الديموقراطي ” (نفسه 87/88).

***

إن الحديث عن (الديموقراطية) استلهام  لروح الإسلام الخالدة من الناحية الذاتية والنظرية ، واستلهام لفترة الراشدين بصفتها المحك الذي نجحت فيه الروح الديموقراطية إلى أبعد الحدود من الناحية الموضوعية الاجتماعية التطبيقية   مما جعل عالماً جليلاً مثل المرحوم الشيخ محمد الغزالي يقول : ” ابن تيمية ـ بلا ريب ـ من شيوخ الإسلام الأكابر ، وقد قاتل في جميع الميادين التي فتحتها القوى المعادية للإسلام ضد الإسلام ، وكان فيها صلبا قوياً وقد لاحظت أن رأيه في الشورى هو آخر ما وصلت إليه الديمقراطية الغربية لأنه رأى أن اجتماع المسلمين في سقيفة بني ساعدة لاختيار أبي بكر هو الأساس في أن يكون الحاكم حاكماً .. فهو رجل متفتح من غير شك من الناحية السياسية ويدري جيداً أن الحكم ملك الأمة وهي التي تستأجر الحاكم لكي يؤدي عنها ما تريد”(مع القرآن: محمد الغزالي ص159) .

ولذلك ” إذا كان المراد بالديمقراطية نظام الحكم  المضاد للديكتاتورية فمن الممكن أن ينسجم الإسلام مع الديمقراطية لأنه ليس فيه موقع لحكومة تدار وفق هوى فرد أو جماعة من الأفراد، فأساس القرار في الحكومة الإسلامية وأعمالها ينبغي أن يكون الشريعة لا الهوى أو الهوس الشخصي (وذلك) شرط مسبق للديمقراطية ” (حميد عنايت: الفكر السياسي الإسلامي المعاصر ص257)، إنه الشرط الفكري والثقافي والعقيدي الذي تعبر عنه الأحكام والتشريعات الإسلامية المستنبطة من القرآن والسنة والمشروطة بالاستعانة بآليات الشورى والإجماع ..

محمد البنعيادي


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “  الحرية والمسؤولية من مرتكزات عصر الرسالة (2)

  • زكية برواين

    فاساس “العقد الإجتماعي” الذي يحمي كيانات المجتمعات ويصون الحقوق والحريات ، ويحمي كرامة الإنسان ، في ذاك المبدأ الذي خلده التاريخ :
    (( حصنها بالعدل فإنه مرمتها والسلام ))