وإذا الفتاة المسلمة سئلت…لأي سبيل هديت… وأي منهج سلكت…


 

رأيتهن على قارعة الطريق،  وعلى جنبات أرصفة المؤسسات التعليمية،  قد افترشن الأرض وقعدن… أووقفن… في جماعات يطبعها الاختلاط البشع والمجون  المقرف…وعرفت أنهن طالبات علم من بقايا وزرة ما زالت تبدوعلى استحياء لدى بعضهن!

ولكنني لم أفهم ولم أستوعب كيف هانت عليهن أنفسهن حتى أصبحن يعرضن أجسادهن متاعا مشاعا للماكث والرائح والغادي،  أجساد شبه عارية… أكتاف ونحور وبطون وسيقان بادية،  ويتوسلن عري هذه المناطق من أجسادهن من أجل ممارسة الإغواء…وقد توارت الجدية والوقار المفترض ترسمهما على ملامحهن… ملامح من خرجن يبحثن عن معين يرشفن منه ما يفتح مداركهن،  ويعينهن على معرفة كنه الواقع والماضي والحاضر والمستقبل…

وتعجبت من حالهن: يعرضن أوضاعا وينثرن أحاديث وكلمات تخجل المارة،  ممن لا يزال في أنفسهم بقية من قيم مستقاة من الدين،  أوحتى بقية من موروث تقاليدي مخضب ببقايا تعاليم دينية تلاشت تدريجيا مع مرور الزمن،  وغدت هشة… فأتت عليها موجات التغريب المتلاحقة.

ورأيت بعضهن أيضا ـ وللأسف ـ قد اتخذن قطعة ثوب غطاء للرأس  قد انسدلت طويلا على الكتف في بعض الأحيان،  موضوعة ومنمقة بعناية فائقة،  لكن الأرداف والخصر وحتى المؤخرات والأفخاذ قد حشرت بعناية أيضا في سراويل ممعنة في التكالب على تحديد معالم أنوثتهن.

وبدين ـ بوجوههن المصبوغة أغلب تقاسيمها وتضاريسها ـ وكأنهن يحاولن أن يقنعن الناس بأنهن وإن اخترن اللباس الإسلامي فهن في نفس الوقت “متحضرات” يحتفظن ببعض معالم القرب من مظهر من تشبعن بمبادئ العولمة المنحشرة عنفا في كل تفاصيل حياة الإنسان. وعلمت عن طريق الاستقراء والتتبع أن أكثر هذه الفئة الأخيرة ينتمين إلى أسر  يحرص فيها الوالد على إعفاء لحيته،  والأم على ارتداء اللباس الإسلامي،  ويصر فيها الاثنان على الانتماء للفئة الملتزمة بتطبيق تعاليم الإسلام.

والمشكلة تكمن في كون منظر الطائفة الأولى قد بدأ يبدومقبولا ـ وللأسف مرة أخرى ـ عند جل أفراد المجتمع في زمن البعد عن الله، لكن الأمر مختلف بالنسبة للواتي يدعين ـ بالمظهر على الأقل ـ الانتساب لفئة الراغبات في تفعيل الدين وتطبيق أحكامه.

ف”المحجبة المتبرجة”لا زالت ـ رغم محاولتها “الصادقة” للتنصل من تمثيل الإسلام،  ورغم رفضها الظهور بمظهر “المتزمتات” الملتزمات بتطبيق مبادئ الدين ـ رمزا للتدين عند الآخر،  الذي لم ولن يفتأ يقرن بين ما يصدر عنها من أفعال وأقوال وتصرفات وبين الإسلام…

وحتى لوكان هذا الآخر مخطئا ومجانبا للصواب لعدم تحريه الحق في مضانه،  ولكونه أعفى نفسه من السعي نحوالتطبيق،  واكتفى بمحاكمة الناس وتتبع عوراتهم وسلبيات سلوكياتهم، فإن هذا لا يعفيها هي من تحمل المسؤولية تجاهه،  وقد تجرأت بقصد أوبدونه على مخادعة الله،  إذ حسبت أنه سبحانه قد يحسبها التزمت بالزي الإسلامي لأنها لبست لباسا يغلف جسدها دون احتساب قضية التصاق قطع اللباس المرتدى بأعضاء الجسد بشكل يجعلها أكثر إثارة وفتنة، ودون الرجوع إلى الكتاب والسنة وسؤال أهل الذكر لمعرفة شروط اللباس الإسلامي.

ثم إن درجة المسؤولية تتعاظم لكون السلوك أيضا ـ بعد اللباس ـ قد تعرض لعملية تجريد من كل البصمات الإسلامية الواجب تغلغلها في نسيجه،  فالتهتك والانحلال الأخلاقي أصبحا حاضرين بقوة، لدرجة أن أضحى اتخاذ الأخدان “جائزا” بالنسبة ل”المحجبة” في زمن “الجوع العاطفي” وهيجان الغرائز الحيوانية المركسة في الطين والوحل…

والمسؤولية متعلقة أساسا بحجب جوهر الإسلام الأصيل الواضح،  البين أثره المصلح على الفرد والأسرة والمجتمع عامة،  وعلى الأسرة والمرأة خاصة.

إذ كيف لمن لا اطلاع له على حقيقة علاقة الإسلامبالمنتسبين إليه أن يفهم وأن يستوعب تجرد المحجبة من العفة والحياء، وتخلصها من ربقة  الوقار والخلق الإسلامي الرصين؟

ثم وكيف له بعد ذلك أن يرغب في التدين؟ وينحى منحى الملتزمين به وواقع حالهم يبرهن على صدق مقولة من يقول بأنهم إنما يتوسلون الدين مرقاة لنيل عرض الحياة الدنيا،  لا يريدون به صلاحا ولا إصلاحا،  ولا يرتدون جبته إلا بالقدر الذي يسمح لهم بقضاء المآرب والحاجات.

وما من شك في أن من يجب أن يساءل عن هذا التفريط، ومن يجب أن يشار إليهم  بالبنان في هذا المضمار دون غيرهم : هم المربون… الراعون… المسئولون أمام الله عن رعيتهم…

إذ أصابوا بتوانيهم عن القيام بواجباتهم التربوية العمق والواجهة  الإسلاميين بخدوش متجذرة مشينة،  فوقفت حاجزا في وجه الدعوة إلى الله بالقدوة وبالسمت الإسلامي المرغب في الاحتذاء.

إنهم الآباء والأمهات الذين انغمسوا في لجة الدنيا يصيبونها…استفرغوا كل الجهد في ذلك… واكتفوا من التوجيه والتربية والتوعية بمبادئ الدين الحنيف بالقسط اليسير حتى “لا يثقلوا” على “زهرات” رزقوا بهن في “زمن صعب… زمن الفتن الكبرى وطوفان المغريات”،  وحتى لا تكون التربية الصارمة والمواعظ المتواترة طوقا يخنق أنفاس هؤلاء “المرهفات الحس” ويمنع انطلاقتهن ويحرمهن لذة التنعم بمباهج الحياة.

وأيضا حتى لا تشعر البنات ب”الغربة ” ويعانين من “التمييز” حين يجدن أنفسهن قد اختلف ظاهرهن وباطنهن عن من يحيطون ويحطن بهن…

مع أنه كان من الواجب أن تكون الغربة الشعورية المميزة ـ الممتعة البناءة المؤنسة المعزة المستقرة في حنايا من شببن في طاعة الله وفي معية كتاب الله وسنة رسوله ـ هدفا لرحلة التربية المتواصلة الدءوب سيرها على منهج الحق،  منذ أن من الله علي أولائك المربين بالذرية المنشود صلاحها حتى تحقق المؤسسة العبادية للزواج دورها في تمكين الفرد من الفوز بالجنة والنجاة من النار.

ولكن وللأسف حين غيب التذكير الحقيقي بالحقيقة الكبرى: أن الكل لله وأنهم الكل إليه راجع،  وأنه لن تزول الأقدام حتى يساءل الكل عن مدى استسلامهم له وانقيادهم لأوامره في كل أمر،  فإن هؤلاء المربين صاغوا سبلا ومناهج جعلتهم “أكثر تفهما” لأحوال ذرياتهم من خالقهم وباريهم، فقاموا ب”تنزيلات وتخفيضات” ليجعلوا التدين “أقل مشقة  وكلفة وأكثر يسرا في المقاربة والتطبيق”حتى لا تصاب تلك الذرية ب”الإحباط” وحتى لا “توسم بالتطرف”في زمن “التفتح” والتبرؤ من “الغلوفي الدين”. فأخطئوا وأفسدوا من حيث أنهم أرادوا الإصلاح، وأخرجوا بناتهم من نعيم الفطرة والاستسلام لله إلى شقاء وضنك جحر الضب… الذي حتى ولوحاولن أن يبدين كمن لا علاقة لهن به، فإنهن لن يستطعن ذلك لتجلي آثار الظلمة والنتانة على مظاهرهن،  نتيجة عدم إفرادهن لله مشرعا في كل أمر،  بما فيذلك مجالي السلوك واللباس،  اللذين يبدوانحسار نور الله عن الخلفية الفكرية المؤدية إليهما واضحا للعيان.

ولا أظن أن هنالك من يجادل في حتمية الخطر الداهم إن لم يصحح المسار،  وإن لم يرمم الشرخ ويرأب الصدع، فالمسألة متعلقة بالفتاة المسلمة وبالزوجة المسلمة استقبالا، ثم بالأم المسلمة بعد ذلك. فإن لم ينصلح حال الفسيلة فستنموالنبتة معوجة الساق والأغصان، ولن تكون الثمار والفروع إلا على شاكلة الأصل.

ولن تختار الفتاة “المحجبة”المنحلة سلوكا،  المتبرجة مظهرا،  الغير مستنيرة  بنور الله إلا من يشابهها في التوجه كشريك للحياة،  ثم لن تنجب ولن تربي إلا جيلا  منهزما ماجنا إمعة تائها،  لا يدري أ الشرق يتخذ قبلة أم الغرب يستنبط من مرجعيتها منهجا يمشي به مكبا على وجهه لا يهتدي أبدا،  إذ الهدى مقترن بمدى معرفة الله والاستسلام لحكمه. فإن لم نتيقظ إذا فسيخبوالضياء، ويظلم الفضاء، إذ لنيكون هنالك من خلف يحمل النبراس ويتعهد الجذوة.

فلنعمل إذا ـ على عجل ـ لجعل ديدننا الأوحد: العودة إلى معين الحق نمتح منه ما يعيننا على قطع دابر هذا المرض الذي بدأ يغزوكياننا، وعلى التصدي لهذه المظاهر النشاز،  التي ما استقرت صورها بين ظهرانينا إلا بالبعد عن الله،  وبالإعراض عن الاحتكام إلى كتابه وسنة رسوله، والتي ما تناسلت أبعاد آثارها المدمرة إلا بإعادة الاعتبار إلى الهوى المبعد عن المحجة البيضاء،  المزيح عن الصراط المستقيم، المحبب الائتمار بأوامره إلى النفس الأمارة بالسوء.

ولنسأل الله أن يلهمنا الرشد ونحن نتلمس السبل القمينة بأن تمكننا من إنتاج جيل من المؤمنات مميز المظهر والسلوك،  قد اصطبغت أحوالهن بلون لا إله إلا الله، لا يردن بديلا عن الأوبة إلى مقتضاها في كل صغيرة وكبيرة تعترضهن من أمور الدنيا والآخرة.

ولنعمل على إعادة تحديد المرجعية والأهداف…ولنزرع خشية الله في أنحاء قلوبنا لتينع…تنتج نبتا سامقا متشابك الأفنان يمنع شوك الزيغ من أن يحتل فينا مساحات…فنفقد نفحة الروح العلي المميز للإنسان المستحق للاستخلاف في الأرض.

د.صالحة رحوتي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>