التربية الإسلامية بين مؤامرة اللغو ومحاولات الإلغاء


التربية الإسلامية ومحنة التهميش

إن الراصد لتاريخ تدريس مادة التربية الإسلامية بالمغرب، بإمكانه أن يخرج باستنتاج واضح، مفاده أن هذه المادة ظلت عبر ذلك التاريخ، تعاني من محنة شديدة الوطأة، تتمثل بعض تجلياتها في:

- التضييق والتقتير عليها من حيث الحيز الزمني المتاح لها ضمن باقي مواد المنظومة التعليمة، والذي لم يتجاوز سقف الحصتين في أحسن الأحوال.

- الاستهانة بشأنها وسوء تقدير قيمتها، من خلال المعامل البسيط المخصص لها، والذي لم  يتجاوز” معامل2، الذي حظيت به التخصصات الأدبية دون العلمية في بعض الأحيان.

- الاستهتار بحقها الكامل في الأستاذ المختص أسوة بأخواتها، وعلى الأصح جاراتها اللائي تخالفنها في التصور والعقيدة والقيم في غالب الأحيان،وإسناد تدريسها في حالات شتى لغرباء عنها، لجهلهم بأبسط مبادئها وحقائقها.

- عدماحتساب نقطها في الامتحانات المقررة لمصير التلميذ إلى عهد قريب، وحرمانها من الصفة الوطنية،والاكتفاء بجعلها في زمرة المواد الممتحن فيها جهويا.

إن مظاهر التهميش والإقصاء الآنفة الذكر وغيرها مما هوفي حكمها، تشكل في مجموعها تجسيدا سافرا لموقف اللغوإزاء مادة التربية الإسلامية. وأقصد بمفهوم اللغوهنا بعض ما يفيده قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون}(فصلت:26 ) . غير أن أبلغ تعبير  عن ذلك اللغو- وإن كان يخفى على الكثيرين من غير المختصين- هوإكراه هذه المادة على أن تعيش وضعية الاغتراب وسط مجموع المواد الدراسية الأخرى،بحكم مشاكسة أغلب قيم تلك المواد، لنسق القيم التي تبثها. (أي مادة التربية الإسلامية)(1) وإذا كان أسلوب اللغوواحدا من الأساليب المنتهجة من الباطل إزاء الحق منذ القديم، فإن صيغه قد عرفت تطورا وتنوعا من خلال استثمار التطور التقني الهائل(2).

وإذا كان اللغوالذي ابتليت به مادة التربية الإسلامية يشكل في حد ذاته عنصر تشويش وإزعاج في طريق تحقيق أهدافها وبلوغ مقاصدها في تمنيع الأجيال وبناء “الشاكلة الثقافية” لديهم،فإن جهات متنفذة مشبوهة ذات صلة بأجهزة القرار في منظومة التربية والتكوين، تريد أن تتجاوز مرحلة اللغوإلى مرحلة أعنف وأشد، هي مرحلة الإلغاء.وإن من يتدبر هذه الخطوة البالغة الجراءة، وهذا السعي الممعن في الاستهتار، يدرك إلى أي حد يمكن أن يذهب الجهل بحقيقة مجتمع من المجتمعات، في الدفع ببعض الناس إلى المساس بسيادة ذلك المجتمع وكرامته وأمنه وسلامته، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

إننا نقول لهؤلاء بصوت مرتفع جهير، من باب النصيحة والتذكير: إن غياب مادة التربية الإسلامية أوحضورها الباهت، غياب للحد الأدنى من العنصر الضامن للأمن الروحي والتوازن النفسي في شخصيات الناشئين، باعتبار ما تبثهتلك المادة من قيم حامية للفطرة ضابطة للسلوك، من قبيل الصدق والوفاء والتسامح والإخاء، والتعاون على البر والتقوى والصبر والإيثار وحب الخير للناس، وما تمثله من حصن منيع ضد الابتذال والسقوط وإهدار الكرامة الإنسانية.وقبل ذلك وبعده، ما توفره من شروط ربط هؤلاء بربهم العلي القدير، برباط الخشية التي تذكي لديهم جهاز الرقابة الكفيل بضبط السلوك وتصحيح السير،  وهي -أي المادة- إلى كل ذلك، سر الوحدة والانسجام، وصمام الأمان ضد كل ما يمكن أن يعن من نزعات الفرقة والانقسام، ومن ثمة يمكن القول بكل يقين، بأن أي دعوة إلى المساس بمادة التربية الإسلامية بحذف أوتقليص، هي عدوان سافر على وحدة الأمة وتمزيق لشملها، وإتلاف لصمام أمنها واستقرار كيانها.

إن أي قارئ لمراسلة مديرية المناهج الخاصة بإعادة النظر في حصص المواد الدراسية في جميع الشعب والأقطاب، لا يحتاج إلى كبير فطنة أوتفكير، للكشف عن كونها تحمل لغما وتبيت شرا يستهدف حضور مادة التربية الإسلامية في منظومة التربية والتكوين في المجتمع المغربي. فبمجرد قراءة تلك المراسلة، يطالعك فيها منطقها الإقصائي الذي لا يبغي برأس التربية الإسلامية بديلا.

فمن مكونات ذلك المنطق الغريب، أن هناك مواد تشكل قاسما مشتركا بالنسبة لجميع المسالك والاختيارات التي تضمها منظومة التربية والتكوين، ولكن لا وجود لمادة التربية الإسلامية من بين تلك المواد . ومما لا ريب فيه أن كل عاقل حصيف، يدرك بأننا لوخيرنا بين الاستغناء عن بعض المواد المعتبرة قاسما مشتركا( كالفلسفة والمعلوميات والرياضيات) وبين الاستغناء عن مادة التربية الإسلامية، لاقتضى الرشد منا أن نتنازل عن بعض تلك المواد، مقابل التمسك بمادة التربية الإسلامية، لأن ما يترتب عن التخلي عنها والتفريط فيها  من مفسدة، لا يقاس عليه البتة ما ينجم عن التخلي عن تلك المواد منمثالب وعيوب. وهل يصح في الأذهان أن تسوى مفسدة محتملة بمفسدة محققة؟ إنه لا يضير خريج المدرسة المغربية- على مستوى الوجود والمصير- أن لا يكون متقنا لفن التفلسف وأساليب الحجاج، ولكن يضيره أيما ضرر، على وجه الحتم واليقين، أن يكون جاهلا بأصول التعامل مع الحق ومع الخلق، مما لا يتأتى له تحصيله إلا عبر مادة التربية الإسلامية. وإذا تحدثنا بلغة المقاصد عند الشاطبي رحمه الله، قلنا عن مادة التربية الإسلامية ترتبط بأعلى الضروريات أوالكليات الخمس، وهي كلية الدين التي قد يضحى في سبيل الحفاظ عليها ببعض باقي الكليات، كالنفس والمال، بينما ترتبط الفلسفة- على ما لها من قدر في شحذ ملكة التفكير المنهجي لدى المتعلمين- بأمر يندرج تحت ما هومن قبيل الحاجي في أبعد الحدود. نسوق هذه الحجة حتى على افتراض أن الفلسفة تملك ما لا تملكه مادة التربية الإسلامية، وعلى افتراض أن تتوفر من حيث مبناها النظري ومن حيث قوامها المنهجي والديداكتيكي، على ما يؤهلها لتحقيق المقصد المذكور. أما وأن الواقع ينفي الافتراض الأول في أغلب الأحوال، وينفي الثاني على وجه الإطلاق، فإن منحى الموازنة وتقدير حجم المصلحة وحجم المفسدة، يقتضي استحضار معايير أخرى ومحاذير أخرى على حد سواء. ذلك بأن مادة التربية الإسلامية، إذا ما أحسن توفير عدتها المنهاجية والديداكتيكية، من جهة، وأزيحت من طريقها المنغصات والعقبات، قادرة -بإذن الله- على بناء العقل والوجدان، وتأسيس ” الشاكلة الثقافية” والسلوكية لأجيال المتعلمين، لأن من سمات الدين الذي تعبر عنه التربية الإسلامية، الربانية والشمول، فمنهج التربية الإسلامية يستهدف بالبناء كل جوانب الإنسان،،من روح وجسم وعقل ووجدان، ويرسخ موقع ابن آدم في هذا الكون ويتغلغل به في جميع الاتجاهات البانية على أساس الفاعلية والإيجابية والتوازن والواقعية، في مساريحفظ وحدة الإنسان، ويدرأ عنها كل عوامل التفتت والانقسام، ويهيئ لها كل شروط التفتح والنماء والازدهار.

حذف التربية الإسلامية أوتقليص حصصها تناقض صارخ وعدوان سافر

إن حذف مادة التربية الإسلامية أوتقليص حصصها، يمثل من جهة، تناقضا صارخا مع مقتضيات المرتكز الأول” للميثاق الوطني للتربية والتكوين” ومقررات “الكتاب الأبيض”.

فالمرتكز الأول للميثاق، ينص على ترسيخ العقيدة الإسلامية في المتعلمين، والكتاب الأبيض أقر لمادة التربية الإسلامية بحصص تشكل الحد الأدنى الذي لا يمكن النزول أوالتنازل عنه، إذا أريد لمنظومة التربية والتكوين أن تنقذ ماء وجهها أمام شعب مسلم، تتغلغل الثقافة الإسلامية في عمقه التاريخي والحضاري. أما الوفاء لمطلب الترسيخ الذي وشح به صدر الميثاق ن فيظل من قبيل المحال في ظل الحصص الشحيحة للمادة، وفي ظل مناخ اللغوالذي يكتنفها ويحاصرها، ويعمل على التقليل من ثمراتها والحيلولة دون مقاصدها. ويكمن التناقض الصارخ في هذا السلوك الغريب والتحرك المريب، في أن المفروض بمقتضى سنن البناء الحضاري والتدافع بين الحق والباطل، أن يتجه تطوير المنظومة التربوية، لا إلى الحذف والتقليص من مادة التربية الإسلامية، وإنما إلى الزيادة فيها وتحسين أدائها ومردودها، و- أكثر من ذلك- إلى إنهاء مؤامرة اللغوالمهيمنة، بإرساء دعائم منهاج التربية الإسلامية في بعده الشامل. وآنئذ فقط، نكون أمام انعتاق فعلي لمنظومتنا التربوية، وميلاد جديد لأمتنا، يجدد نسيجها، ويطلق طاقاتها من عقالها، ويحررها من عقدها.

ويمثل حذف مادة التربية الإسلامية أوالتقليص من غلافها الزمني، من جهة أخرى، عدوانا

سافرا على حق الأجيال في تعلم مبادئ دينها والخضوع لصياغة إسلامية، تمكنها من

أن تشكل حلقة متينة ومحكمة في الصيرورة الحضارية للأمة، كما يمثل ذلك الحذف

أوالتقليص، عدوانا سافراعلى الأمة، لأنه يزج بها في أتون فتنة عمياء، ويقذف بها في

خضم متلاطم يبتلع طاقاتها الخلاقة المتمثلة في أجيال الشباب الذين تتنازعهم تيارات التفسخ والانحراف، أويسقطون صرعى للفهوم الخاطئة الناتجة عن التعامل الفج مع الدين، لما يعوزه من مؤهلات الفهم وآليات الاستنباط والتنزيل، أويقعون ضحايا لمحاولات الاستقطاب الممارسة  من قبل جهات مجهولة الأصول مشبوهة الأهداف، تشكل خطرا على وحدة العقيدة والمذهب، وصفاء الفهم للإسلام، وهي مكاسب يعتز بها المغاربة على مر العصور، ونعمة سابغة تفتقدها كثير من الشعوب، حتى في نطاق الدائرة الإسلامية.

إن ريح العولمة العقيم،لن يثبت في مهبها الضعفاء والمهزومون نفسيا وحضاريا، وإنما القادرون على الثبات والبقاء، بفضل ما يمتلكون من مقومات الممانعة والصمود، التي لن تتأتى إلا بالبناء التربوي المتوازن الرصين، القائم على تشبع الأجيال الناشئة بقيم الإسلام الخالدة، ورؤيته العميقة للكون والإنسان والحياة.

إن الذين يتولون كبر فتنة الشعب بهذه الدعوات المشينة إلى إلغاء مادة التربية الإسلامية، قد لا يدور بخلدهم أنهم بصنيعهم ذلك، يعرضونه إما لإبادة حضارية، وإما إلى لحرب هوجاء، تستنزف الطاقات وتأتي على الأخضر واليابس. وإنه لمن حق حراس الشعب وحماة ميراثه الحضاري، ومن واجبهم المقدس في الآن نفسه، أن يضعوا حدا لهذا التلاعب وهذا العبث بمقدرات الأمة ومصيرها، بزحزحة هؤلاء المتلاعبين عن مواقع صناعة القرار، أوتهيئ شروطه ومقدماته. وإنه ما لم يحدث ذلك على وجه الاستعجال، وبالحزم والصرامة اللازمين، ستظل منظومتنا التربوية رهينة المناوشات والمزايدات الرخيصة التي تلهي الشعب عن اختياراته الاستراتيجية ورهاناته الحيوية الكبرى.

إنه لمن الظلم الفظيع أن تتلقى مادة التربية الإسلامية الضربات وتوضع في قفص الاتهام، تحت ذرائع مصطنعة وحججملفقة، توحي بها وتنفثها نفوس شريرة تمحضت للدفاع عن الباطل ومنازعة الحق. وإنه من الظلم الفظيع أن لا تصان التربية الإسلامية عن العبث في أمة لم يقم لها كيان صلب، ولم تعرف وحدتها ومجدها إلا في ظل الإسلام. وإنه من تبلد الإحساس وانعدام الحياء، أن تقع الدعوة إلى حذف التربية الإسلامية أوتقليص حصصها في وقت يتعرض  فيه المصحف الشريف إلى جريمة التدنيس والامتهان من قبل القوى الشريرة والهمجية في هذا العالم. لقد كان الأولى- كرد بليغ على هذا الاستهتار، وكتعبير عن الوفاء لحرمة المصحف ورسالة القرآن الكريم – أن تتحرك في الأمة الحمية والغيرة، وأن تعانق ذلك الكتاب بحب وشغف، وتجعله جوهرا ومدارا، ومحركا ومنارا، لا لمنظومة التربية والتكوين في بلادنا فحسب، ولكن لنظام حياتنا الشامل، آنئذ وآنئذ فقط، يمكنها الخروج من التيه، وأن تعود إلى ريادتها وشهودها كخير أمة أخرجت للناس.

———

1 – قال ابن كثير في تفسير اللغوفي هذه الآية:” {والغوا فيه} أي إذا تلي لا تسمعوا له، كما قال مجاهد( والغوا فيه) يعني بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله  إذا قرأ القرآن، وكانت قريش تفعله…”

2 – تجدر الإشارة هاهنا إلى أن اللغوالممارس ضد التربية الإسلامية هولغومن مستوى مخالف لماكان عليه الأمر في بداية الدعوة الإسلامية،  لأنه يتم في إطار منظومة تعليمية تقر بالإسلام، وبمطلب ترسيخ العقيدة الإسلامية في المتعلمين، كثابت من ثوابت مرجعية تلك المنظومة، فضلا عن كونه يجري في ظل دولة يعلن دستورها أن دينها الإسلام، ومن ثم وجب أخذ هذا الفرق بعين الاعتبار.

ذ.عبد الله بن محمد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>