وقفت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة مرة أخرى، خافضة رافعة،أمام أفواه وآذان العرب والمسلمين، المشرعة لدروس جديدة في “الإصلاح”، كما لو كانوا تدحرجوا إلى الأرض، مع آخر قطرة مطر، وليسوا سليلي حضارة عملاقة، رَبَط فيها الله سبحانه، فلاَحَ ومصداقيةَ الكائن البشري، بإيمانه بالله وقيامه بالأعمال الصالحة قبل أربعة عشر قرنا من الزمان. قال سبحانه: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. كما وردت كلمة الإصلاح بكل اشتقاقاتها في القرآن الكريم أكثر من مائة وخمسين مرة !!!..
وبالعودة إلى كوندوليزا رايس فقد جرت أذن السعودية وأذن مصر خلال هذا العرس “الإصلاحي” (المتجدد حتى تقوم الساعة)، ودعتهما -ولسان حالها يردد إياكم أعني واسمعوا ياجيران- إلى فتح أبوابهما لا نوافذهما فقط لرياح بل زوابع الديمقراطية والإصلاح، وأثنت في سياق الترويض، على تجارب عربية ديمقراطية ناجحة وغمزت لأخرى في اتجاه أن تفهم تلك الدول بالغمزة ولا تضطر أمريكا إلى المعاملة بالدبزة بمقتضى المثل المغربي : (الحر بالغمزة والعبد بالدبزة)، وهي الخبيرة -أي أمريكا- في ملف ترويض العبيد. وقالت أيضا في إطار رسائل تحرشها المعهودة بالأنظمة العربية إنها ستجتمع مع (حزب الغد) المصري المعارض، في إطار ما يسمى (بالتحراش علا عينيك أبن عدي). وللإشارة فإن رايس كما أخبرت بذلك قصاصات الأنباء لم تذكر معارضة الإخوان المسلمين بـمصر إلا سلبا وإعراضاً، علما بأن المجموعتين في سياق فوران الشارع المصري تخوضان معارضتهما ضد الحكومة المصرية، بنفس المطالب على العموم كما أن طاقة تجييش الشارع المصري من لدن الإخوان هي أكثر اعتبارا، إلا أن رايس بكل تأكيد لن تتصدق بوصلات إشهارية تلميعية لحساب أعداء البيت الأبيض التقليديين، لمجرد رفعهم يافطة الإصلاح، وهي التي تسعى عبر رحلاتها المكوكية لترتيب استراتيجية عملاقة، قوامها وَأْدُ قوى المقاومة ذات التلوين الإسلامي، في أفق عجن الخرائط الإسلامية، وإحالتها إلى خرائط من تراب ومراعٍ، تسرح على أديمها، قطعان أغنام استثنائية في تسامحها إلى حد اعتبار ذئاب الاستعمار الجديد بمثابة ذئاب من الصنف العطوف والحريص على خيرها، فليست تفترس من بينها، إلا تلك (الـمارقة)وبتعبير أدق، صاحبة (الرؤوس القاصحة)، والتي لا يجوز على كل حال أن تعيش في صفوف القطعان الحكيمة !!
وفي ظل هذا التربص المقصود والمفضوح، وهذا التخطيط الطويل النفس، لإستراتيجيات احتوائية لا تبقي ولا تدر، يـَحَزُّ في نفس المسلم الغيور على دينه وأمته، أن تتداعى أصوات وحساسيات من داخل الحركة الإسلامية للانخراط في المطالبة بالإصلاح من داخل المنابر الرسمية “لعدوة الشعوب ” حتى وإن كان انخراطها تكتيكيا كما يقال في علم السياسة، وبريئا، وتهدف من خلاله هذه الحركات الإسلامية إلى إحراج أمريكا ووضعها في تناقض جلي إزاء ازدواجية خطابها، المطبل للإصلاح كلما قادت مواكبه القوى المؤمركة الهوى، والتـعتيم عليه وعلى حملة لوائه، إذا كانوا من صلب الحركة الإسلامية الرافضة للأجندة الأمريكية التوسعية. وبعيدا عن هذه النيات الحسنة يحق للمرء أن يتساءل:
ألهذا الحد غريرون هم أولئك الذين (جَاوْ حتا لرَحْبة فْلِيُّو وبغاو يجيـهم الرَّواح) !! ألا يعلمون بالمثل المغربي :(اللي في راس الجمل في راس الجمال)، ثم ألا يعلمون أن الإدارة الأمريكية التي يريدون ركوب موجاتها “الإصلاحية الميركانتيلية، لا تؤمن في حقهم إلا بالمثل المغربي (أنـا ماكـا نحملك ما بقا غير نضمنك)!! (أنا لا أتحمّلك فكيف أضْمَنُ لك النجاج؟!).
الذي تعجّب يُُْبْتَلَى
سبحان الذي يمسيها في شأن ويصبحها في شأن، وسبحان الله في هذا الوطن العربي الإسلامي الذي عشنا ورأينا فيه أطيافا من الحركة الإسلامية تتناغم بشكل غريب مع أجندة الشرق الأوسط الجديد فيغدو خطابها صريح العداء تجاه الأنظمة العربية الحاكمة من داخل المطبخ الأمريكي يا حسرة، وهذا هو القاصم..
وبالواضح لا المرموز فإن الدعوات الانقلابية التي انطلقت من لدن طيف من داخل الحركة الإسلامية المغربية واقتفت فيه النهج اللبناني “الجنبلاطي” في اعتلاء المنابر الغربية والحديث عن السقوط الوشيك للنظام لمما يمكن تصنيفه في باب الحس المغامراتي الذي قد يؤدي لاقدر الله الى إسقاط الخيمة على صالحها وطالحها، وسيكون من تداعياته كما يقول المثل المغربي (تفياق الأعمى لضريب لحجر)، والمصيبة أن ضربة هذا الأعمى (الأمريكي الهوية)، هي كما تقول الصيغة المغربية: (دقة ببطلا) -أي ضربة قاصمة-، ولنا في العراق المثل الأبلغ على نوعية الإصلاح الذي يراد للعالم العربي الإسلامي أن يندمج فيه..
وبعيدا عن المخاطر الخارجية، هل تنقص هؤلاء المنظرين للقيامة داخل بلدانهم، النظرة الشمولية للوضعية جيو سياسية الحرجة لهذا البلد؟!
ألسنا أمام هشاشة جغرافية قد يتسرب منها لا قدر الله البلاء الأعظم وأقصد به الملف الصحراوي المسموم..
ألسنا أمام هشاشة جغرافية خطيرة تنطلق هذه المرة من الشمال الشرقي وتتخذ من الجبال بيوتا لقيادة انتفاضة حجارة ضد المخزن؟!!
ألسنا أمام هشاشة أمازيغية يدعو بعض متطرفيها بين سطور تصريحاتهم إلى رمي “لعروبية”جميعا إلى البحر، وبلقنة المغرب لتمتيع مغامريها بالاستقلال الذاتي؟!
ألسنا أمام هشاشة علمانية متطرفة تعتبر الفكر الديني إعاقة البلد الأولى، ويجب إسقاط كل رموز الدين، ومعها المساجد، كما أسقطت الكنائس في الغرب لتـعم الديمقراطية حقا، وتتحقق السيدة التنمية؟!!
ألسنا أمام هشاشة الفقر وتداعياته الأليمة من سكن غير لائق ومخدرات ودعارة وهجرة سرية وبطالة وأوبئة اجتماعية تكاد تتلف النسيج المجتمعي من عنف واغتصاب وجرائم اعتداء وقتل وسرقات احترافية وو..
أليست الظرفية ظرفية جمع ولــم للشعت وتوحيد للرأي وتوحد حول قيادة واحدة لايمكن بأية حال أن نغمطها حقها في التغيير، وأكبر إيجابياتها إطلاق سراح الحريات وإقامة المحاكمات العلنية للنظام القديم دون اعتبار لعلاقة الرحم مع المؤسسة الحاكمة.
وتعملق مفهوم حقوق الإنسان بشكل أو بآخر حتى انتفت هيبة الأمن وأصبح رجل الأمن كالدمية لاحول له ولاقوة، يرى المنكر أمام عينيه ولايجرؤعلى تغييره خوفا من (تهمة) المس بحقوق الإنسان، وكان من ِشأن هذه الإشارات الإيجابية أن تضع البلاد على سكة الإصلاح، إلا أنها أطلقت عفاريت بلا عد ولا حساب من القمقم من غير قصد، حيث تضخمت عقدة الحقوق على حساب الواجبات وساد في بعض الحالات مفهوم السيبة في استعمال الحرية مقابل التهاون في العمل الجاد الهادف إلى ترشيد هذه الحرية تلافيا لأي انزلاق يتسبب فيه الحرمان، وكانت النتيجة أن خرج الجميع إلى الشارع العام، للمطالبة بالحقوق في بلد انتفت فيه أهلية وكرامة المواطنين لزمن طويل، وأثقلتهم المظالم من كل الأطياف، وجاء الرد الأمني على دفق الحرمان هذا هو الآخر، غير راشد، فانقلب الشارع العام إلى ساحة وغى (الطايح فيها اكثر من النايـض).. فأين تكمن المشكلة ؟
عقليـة التشبث بالأشكال مصيبة كبرى
إن المسألة ليست مسألة نظام الحكم الفلاني أو العلاني، ولكن المسألة مسألة إصلاح أنفس وتعبيدها لرب العباد لا الأوثان الدنيوية من مال وجاه وكراسٍ وغنائم و..قوى عظمى..
إن كلمة التوحيد الغائبة عبادة ومعاملة هي التي أفرزت المظالم عموديا وأفقيا، فما ينفع شكل النظام على سبيل المثال في فقيه أو معلم أو أستاذ يا حسرة، استرعي على صغار فألحقهم بمخدعه لإشباع شذوذه الجنسي. وما ينفع شكل النظام في مسلم سلفي الهوية، يمزق لحم زوجته ذبحا لأنها نزعت النقاب وأبقت على الخمار، وخرجت باحثة عن الطعام لأبنائها في ظل غيبة طالت، للزوج المحترم. وما ينفع شكل النظام في صبيـة خرجت للشارع قبل الأوان وإذ فقدت بكارتها قيل لها اتهمي والدك باغتصابك لتلافي عقابه ففعلت، وغدا الأب جانيا لا مجنيا عليه من طرف عدالة مهووسة بحقوق النساء !!.
إذْ لو كان التوحيد والخوف من الجليل حاضرا لدى المسؤولين صغارا وكبارا، لما حصل في الحسيمة ماحصل من اغتنام لمأساة قرى بلا عد ولاحساب للهف معونات عملاقة لها، لو وزعت بالعدل على الشعب المغربي لكفت الجميع مؤونة جفاف هذه السنة..
ولوكان التوحيد والتقوى حاضرين لما أفرغت صناديق المؤسسات العمومية بالملايير
ولوكان التوحيد حيا لما أكلت “لجن تقصي الحقائق”، الحقائق المكتشفة في شأن هذه الملفات..
ولو كانت كلمة التوحيد مستوطنة بمقتضياتها قلوب المواطنين، لما استشرت نفسيات الأثرة وتألهت قيم المادة حتى بين ذوي الأرحام.
إن عقلية (البروفيتاج) العقلية الاغتنامية، المغشوشة اليقين، التي تعني فيما تعنيه : (دير علاش ترجع، وتغدَّ بيهم قبل أن يتعشاو بيك) لتؤكد بلا شك على استحكام خلل عظيم في العقيدة، حيث يستبدل اليقين على الله باليقين على المخلوقات والتوكل على شطارة الذات فحسب، قال سبحانه وتعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}.وعقلية الطغيان المتولدة عن الاستغناء عن الخالق، هي التي تجعل هذا الطغيان يصبح ثقافة جماعية يلتجئ إلى خدماتها كل من استبدل العبادة الخالصة لله بعبادة النفس الهلوع والعياذ بالله..
وإزاء هذه الظواهر الوخيمة العاقبة، يحتاج هذا البلد إلى هجمة تخليقية متواصلة، بإعادة المشاعر الدينية الى مكانها الطبيعي، لمواجهة تيارات الردة والانفصال والإفساد، بتفعيل دور المساجد المعتمدة والدعاة الراشدين..
لقد جعلت نكبة 16ماي، كل القوى الحية تـعـي مفصلية الخطاب التأليفي المتوازن، ومن باب : إن الوطن غفور رحيم، سيكون من الحكمة سد الباب في وجه كهنة الهلاك، ومَدّ جسور الحوار إلى جميع القوى الدينية العاقلة والأوابة، رفقة جميع القوى الفاعلة داخل الحقل المجتمعي، الوطنية الهوى، التقية الخفايا، لرتق ثقوب السفينة قبل أن تلامس القعر عملا بوصية رسول الله في حديث السفينة المعروف.
كما أننا في ساعات الضيق هاته واختلاط الأوراق نحتاج بصدق الى إعمال المثل الغربي (اللي تلف يشد الأرض)، والإيمان بأن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون والمصلحون بالتالي لما فسد، من داخل الوطن لا من خارجه..
لقد جعل سبحانه في العديد من الآيات القرآنية عقاب القرى الظالمة بتسليط مجرميها وأكابرها ليفسدوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرا، قال سبحانه {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} وقال سبحانه : {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة} وقال سبحانه {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا} وقال تعالى: {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى وأهلها غافلون}.
وبالتالي فالعيب فينا نحن سكان القرية من نخب وجماهير بلا استثناء. ومن المعلوم أن الفيروسات لا تستطيب المقام إلا في الأجسام العليلة !
وخلاصة القول، لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، لا بـما صلحت به العراق وأفغانستان !!، {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
ذة.فوزية حجبي