المصحف العثماني في الغرب الإسلامي-2


… ثم إنهم أدام الله سبحانه تأييدهم ، ووصل سعودهم، لما أرادوا من المبالغة في تعظيم المصحف المذكور، واستخدام البواطن والظواهر فيما يجب له من التوقير والتعزيز، وشرعوا في انتخاب كسوته، وأخذوا في اختيار حليته، وأتقنوا في استعمال أحفظته، وبالغوا في استجادة أصونته، فحشروا له الصناع المتقنين والمهرة المتفننين، ممن كان بحضرتهم العلية، أو سائر بلادهم القريبة والقصية، فاجتمع لذلك حُذّاق كل صناعة، ومهرة كل طائفة من المهندسين والصواغين والنظامين والحلائين والنقاشين والمرصعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين، ولم يبق من يوصف ببراعة أو ينسب إلى الحذق في صناعة، إلا أُحضر للعمل فيه، والاشتغال بمعنى من معانيه، فاشتغل أهل الحيل الهندسية بعمل أمثلة مخترعة، وأشكال مبتدعة، وضمَّنوها من غرائب الحركات، وخفِيِّ إمداد الأسبابللمسببات، ما بلغوا فيه منتهى طاقتهم، واستفرغوا فيه جهد قوتهم، والهمة العلية أدام الله سموها تترقى فوق معارجهم، وتتخلص كالشهاب الثاقب وراء موالجهم، وتنيف على ما ظنوه الغاية القصوى من لطيف مدارجهم، فسلكوا من عمل هذه الأمثلة كل شِعب، ورأبوا من منتشرها كل شَعْب، وأشرفوا عند تحقيقها وإبراز دقيقها على كل صعب، فكانت منهم وقفة كادت لها النفس تيأس عن مطلبها، والخواطر تكرُّ راجعة عن خفي مذهبها، حتى أطلع الله خليفته في خلقه، وأمينه المرتضى لإقامة حقه، على وجه انقادت فيه تلك الحركات بعد اعتياصها، وتخلصت أشكالها من الاعتراض على أحسن وجوه خلاصها، ألقوا ذلك ـ أيدهم الله بنصره، وأمدهم بمعونته ويُسره ـ إلى المهندسين والصناع فقبلوه أحسن القبول، وتصوروه بأذهانهم فرأوه على مطابقة المأمول، فوقَفَهم حسن تنبيهه مما جهلوه على طور غريب من موجات التعظيم ـ وسيأتي بعد هذا تفصيل تلك الحركات المستغربة، والأشكال المونقة المعجبة، إن شاء الله تعالى ـ؛ مما صُنع للمصحف العظيم من الأصونة الغريبة، والأحفظة العجيبة، أنه كُسي كله بصوان واحد من الذهب والفضة ذي صنائع غريبة من ظاهره وباطنه، لا يشبه بعضها بعضا، قد أُجري فيه من ألوان الزجاج الرومي ما لم يُعهد له في العصر الأول مثال، ولا عمر قبله بشبهه خاطر أو بال، وله مفاصل تجتمع إليها أجزاؤه وتلتئم، وتتناسق عندها عجائبه وتنتظم، وقد أسْلَسَتْ للتحرك أعطافُها، وأُحكم إنشاؤها على البغية وانعطافُها، ونظم على صفحته وجوانبه من فاخر الياقوت ونفيس الدُّرِّ وعظيم الزمرد ما لم تزل الملوك السالفة والقرون الخالية تتنافس في أفراده، وتتوارثه على مرور الزمن وتَرْداده، وتظن العز الأقعس، والملك الأنفس، في ادخاره وإعداده، وتسمي الواحد منها بعد الواحد بالاسم العلم لشذوذه في صنفه واتحاده، فانتظم عليه منها ما شاكله زُهْرُالكواكب في تلألئه واتقاده،  وأشبهه الروض المزخرف غبَّ سماء أقلعت عن إمداده، وأتى هذا الصِّوان الموصوف رائق المنظر، آخذا بمجامع القلب والبصر، مستوليا بصورته الغريبة على جميع الصُّور، يدهش العقول بهاء، ويحير الألباب رُواء، ويكاد يُعشي الناظر تألقا وضياء، فحين تمت خصاله، واستركبت أوصاله، وحان ارتباطه بالمصحف العظيم واتصاله، رأوا ـ أدام الله تأييدهم، وأعلى كلمتهم ـ مما رزقهم الله تعالى من ملاحظة الجهات، والإشراف على جميع الثنيات، أن يُتَلطَّف في وجه يكون به هذا الصوان المذكور طورا متصلا، وطورا منفصلا، ويتأتى به للمصحف الشريف العظيم أن يبرز تارة للخصوص متبذّلا، وتارة للعموم متجملا، إذ معارج الناس في الاستبصار تختلف، وكل له مقام إليه ينتهي وعنده يقف، فعمل فيه على شاكلة هذا المقصد، وتلطف في تتميم هذا الغرض المعتمد، وكسي المصحف العزيز بصوان لطيف من السندس الأخضر، ذيحلية خفيفة تلازمه في المغيب والمحضر، ورتب ترتيبا يتأتى معه أن يكسى بالصوان الأكبر، فيلتئم به التئاما ويغطي على العين من هذا الأثر، وكمل ذلك كلّه على أجمل الصفات وأحسنها، وأبدع المذاهب وأتقنها، وصُنع له محمل غريب الصنعة، بديع الشكل والصيغة، ذو مفاصل ينبو عن دقتها الإدراك، ويشتد بها الارتباط بين المفصلين ويصح الاشتراك، مُغَشًّى كله بضروب من الترصيع، وفنون من النقش البديع، في قطع من الآبنوس والخشب الرفيع، لم تُعمل قط في زمان من الأزمان، ولا انتهت قطُّ إلى أيسره نوافذ الأذهان، مُدار بصنعة قد أجريت في صفائح الذهب، وامتدت امتداد ذوائب الشهب، وصُنع لذلك المحمل كرسي يحمله عند الانتقال، ويشاركه في أكثر الأحوال، مرصّع مثل ترصيعه الغريب، ومُشاكل له في جودة التقسيم وحُسن الترتيب، وصُنع لذلك كله تابوت يحتوي عليه احتواء المشكاة على أنوارها، والصدور على محفوظ أفكارها، مكعب الشكل سام في الطول، حسن الجملة والتفصيل، بالغ ما شاء من التتميم في أوصاله والتكميل، جار مجرى المحمل في التزيين والتجميل، وله في أحد غواربه باب ركبت عليه دفتان قد أحكم الكرسي من تلقائه وتركب المحمل عليه، ما دبرت الحركات الهندسية، وتلقيت تلك التنبيهات القدسية، وانتظمت العجائب المعنوية والحسية، والتأمت الذخائر النفيسة والنفسية، وذلك أن بأسفل هاتين الدفتين فَيْصَلاً فيه موضع قد أعد له مفتاح لطيف يدخل فيه، فإذا أُدخل ذلك المفتاح فيه وأديرت به اليد انفتح الباب بانعطاف الدفتين إلى داخل الدفتين من تلقائهما، وخرج الكرسي من ذاته بما عليه إلى أقصى غايته، وفي خلال خروج الكرسي يتحرك عليه المحمل حركة منتظمة مقترنة بحركته يأتي بها من مؤخر الكرسي زحفا إلى مقدمه، فإذا كمل الكرسي بالخروج وكمل المحمل بالتقدم عليه انغلق الباب برجوع الدفتين إلى موضعها من تلقائهما دون أن يمسهماأحد، وتربت هذه الحركات الأربع على حركة المفتاح فقط دون تكلف شيء آخر، فإذا أدير المفتاح إلى خلف الجهة التي أدير إليها أولا انفتح الباب وأخذ الكرسي في الدخول والمحمل في التأخر عن مقدم الكرسي إلى مؤخره، فإذا عاد كل إلى مكانه انسد الباب بالدفتين أيضا من تلقائه، كل ذلك يترتب على حركة المفتاح، كالذي كان في حال خروجه، وصحت هذه الحركات اللطيفة على أسباب ومسببات غائبة عن الحس في باطن الكرسي، وهي مما يَدِقُّ وصفها، ويصعب ذكرها، أظهرتها بركات هذا الأمر السعيد، وتنبيهات سيدنا ومولانا الخليفة، أدام الله تعالى أمرهم وأعز نصرهم.

وفي خلال الاشتغال بهذه الأعمال التي هي غُرر الدهر، وفرائد العمر، أمروا ـ أدام الله تعالى تأييدهم ـ ببناء المسجد الجامع بحضرة مراكش ـ حرسها الله تعالى ـ فبدئ ببنيانه وتأسيس قبلته في العشر من ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وكمل منتصف شعبان المكرم من العام المذكور، على أكمل الوجوه، وأغرب الصنائع، وأفسح المساحة، وأبعد البناء والنجارة، وفيه من شمسيات الزجاج وحركات المنبر والمقصورة ما لو عُمل في السنين العديدة لاستُغرب تمامه، فكيف في هذا الأمر اليسير الذي لم يتخيّل أحد من الصناع أن يتم فيه فضلا عن بنائه؟ وصليت فيه صلاة الجمعة منتصف شعبان المذكور، ونهضوا ـ أدام الله تأييدهم ـ عقب ذلك لزيارة البقعة المكرمة، والروضة المعظمة، بمدينة تينملَلَ أدام الله رفعتها، فأقاموا بها بقية شعبان المكرم، وأكثر شهر رمضان المعظم، وحملوا في صحبتهم المصحف العزيز ومعه مصحف الإمام المهدي المعلوم في التابوت الموصوف، إذ كان قد صُنع له غرفة في أعلاه، وأحكمت فيه إحكاما كمل به معناه، واجتمع في مشكاته فعاد النور إلى مبتداه، وختم القرآن العزيز في مسجد الإمام المعلوم ختمات كادت لا تحصى لكثرتها، وهنا انتهى ما وجدنا من هذا المكتوب.

ثمقال ابن رُشَيْد ـ بعد إيراد ما تقدم ـ ما صورته : نجزت الرسالة في المصحف العظيم، والحمد لله رب العالمين، انتهى محل الحاجة منه.

د.علي لغزيوي

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>