“يوميات معطل”


من بين النصوص الفائزة في مسابقة جائزة محمد الحلوي للمبدعين الشباب

“يوميات معطل”

“الليلة، إن شاء الله تعالى ستكون آخر موعد لي مع البطالة”، هذا ما قرره في نفسه صديقنا غريب المعطل الذي نحث الصخر بحثا عن وظيفة بدون جدوى.

بعد ست سنوات من التشرد والتذمر، ” سأنحو منحى التجار  وأبدأ من الصفر، يقولون إن التجارة شطارة، وأنا من قضيت ستة عشر سنة في الدراسة بكل جد واجتهاد لن تعوزني الشطارة، كي أكون تاجرا بل سأصبح أبا التجار”.

قضى غريب الليل برمته يخطط للمنحى الجديد لحياته، لكن العثرة الوحيدة كانت هي رأس المال الذي تحتاجه البداية، من أين له به؟، طأطأ رأسه بين ركبتيه يفكر في حالة أسرته الاجتماعية وكيف يتقاتل أبوه كل يوم مع المعاش الهزيل، و أمه التي تظل طول اليوم تساعد ثريات الحارة في الأشغال المنزلية حتى تؤمن مؤونة بقية الشهر.

“عمي عبد الرؤوف، البقال، يحترمني كثيرا ولن يتوان عن قرضي ما أبدأ به مشروعي البسيط، نعم سأقصده في الصباح قبل أنيتعكر مزاجه مع الزبائن “.

نام غريب ما تبقى من آخر الليل وكله أمل في غد مشرق. على صياح ديك الجيران قام من نومه مفزوعا كما لو أن ميعاده مع السعادة قد فات. دخل المطبخ على والدته، قبل يدها ورأسها.

“صباح الخير الميمة”

وهي مشدوهة : ” ياك لاباس أوليدي ؟ ياك ما مريض؟”.

ضحك غريب من دهشة أمه، طبعا من حقها أن تندهش وتخاف على فلذة كبدها الذي قام باكرا على غير عادته، نشيطا وحيويا، وهو الذي اعتاد أن يقوم من النوم على أذان العصر، ساخطا على كل من حوله  بمن فيهم ‘الميمة’ لأنها جنت عليه إذ أتت به إلى هذه الدنيا، كما يقول كل يوم.

قبل أن يغلق الباب وراءه برفق، استدار نحو أمه وطلب دعاءها.

“الله يرضي عليك يا وليدي، ويوقف لك أولاد الحلال…”

اتجه غريب إلى دكان العم عبد الرؤوف.

“صباح الخير “” ياك لاباس”

“ولايني مشكلة معكم فقت بكري ما عجبكم، معطل ما عجبكم.. كاين شي أخبار؟”

“مازالماجات الجرائد”

“خليهم يتعاندو معي على النعاس”

قص غريب حاجته على العم عبد الرؤوف الإنسان الطيب الذي ما رد قط خائبا،  قبل غريب الأوراق النقدية ووعد بإرجاعها في أقرب وقت وانصرف.

بعد جولة قصيرة في سوق الجملة ، اشترى صديقنا بعض ما هو متعارف عليه لدى المبتدئين من ‘ كلينكس ‘ وجوارب نسائية…، طبعا لم يفته أن يقتني نصف متر من البلاستيك، أفرشه لسلعته، وجلس بقرب بعض الباعة على قارعة الطريق في الشارع العام، يستعطف المارة بنظراته كي يبيع سلعته.

” طبعا سأبيعها إن شاء الله، وأعيد للعم عبد الرؤوف ماله ومعه قبلة، أما الربح فسأشتري به سلعة أخرى أكثر جودة من هذه ليزداد ربحي. بعد الآن لن يحرج أبي المسكين الذي يخاف أن يجرح كرامتي كلما أراد أن يدس في جيبي ما يتبقى لديه من سنتيميات  نهاية كل يوم، بعد اليوم لن تضطر أمي إلى إرهاق صحتها في مساعدة ثريات الحي، بل أكثر من ذلك سأجلبلها خادمة تقوم محلها بالأشغال المنزلية..”

قطع استرسال أفكاره صوت رقيق، إنها أول زبونة لهذا اليوم، اشترت علبة منديل الورق وانصرفت بعد أن خطفته برائحة عطرها الأخاذ، تبعها بخياله لكن الذكرى المريرة استوقفته، إنها ذكرى زواج ” لبنى “، رفيقة السنوات الجامعية ، ” الخائنة ” كما يسميها كلما اجتاحت فكره، أما كانت تستطيع أن تصبر أكثر وانتظار الفرج معه ؟ قد تزوجت الخائنة بعد خمس سنوات من الحب و الأحلام الوردية.

” ماذا باستطاعتك أن تقدم لي غير الأحلام والوعود السارقة، هذا ما قالته لي في آخر لقاء لنا، كان جرحا غائرا ما كان ليندمل، فقد كانت عونا للزمن ضدي، تزوجت…ولكن بعد الآن لن يعود لها مكان في مخيلتي لأني سأقوم بالمستحيل حتى أكتب إسمي بين التجار الأكابر، آنذاك سأنتقي من الجميلات أجملهن، وستعض لبنى أناملها غيظا وندما، خاصة عندما ترانا ننزل من سيارتي الفخمة، وزوجتي تضعيدها على كتفي…”

“اهرب…اهرب…  ”

تعالت الأصوات منادية بالهروب، لكن أذنا غريب كانتا تغطيهما ضحكات زوجته الجميلة، حاول أن يقاوم فشعر بيد تمسك بكتفه، اختلط عليه الواقع بالحلم إلا أن اليد كانت أثقل من أن تكون يد امرأة بل كانت يد الشرطي الذي كسر كل مابناه الغريب منذ ليلة أمس بعد أن أخذ منه ما كان يعرض من سلع.

“اعيينا ما نحذروكم ولكن ماكتحشموش…”

ما كان لغريب الوقت ولا الرغبة ليستمع لخطبة الشرطي، بل عاد إلى مكانه وقعد القرفصاء وأبى إلا أن يتم رحلة حلمه على الرغم من  أنوف الكل.

نزهة قويقة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>