في الهندسة


البناء المتميز والمعمار الفنِّي الشامخ، بعض الأسس التي تعتمد عليها الأمم والشعوب في تخليد حضارتها، ونقل ما تتميز به في هذا الباب للأمم اللاحقة. وعجائب الدنيا السبع لا تخرج عن الفن المعماري، ولا تبتعد عنه بشكل كبير، ولهذا كانت بعض الدول القديمة تطمس الآثار العمرانية السابقة وتهدمها، حتى لا تُبْقِي أثرا لتلك الأمم التي قامت على أنقاضها، وبنت مجدها على ما تبقى منها.

ولهذا السبب أيضا، شيدت عدد من الدول الاستعمارية عدة مآثر عمرانية في الدول التي استعمرتها، بعضها متميز شكلا ومضمونا، وبعضها عادي لا يرقى إلى درجة الفنية والإبداع، وإنما شُيّد بهدف تحقيق الأغراض الاستعمارية، والتمكين لها في الأرض المغلوبة المقهورة.

بعض هذه البنايات خُرِّبت مع مرور الزمن بعد الاستقلال، نظرا لعدم الحاجة إليها، أو سوء الاعتناء بها، وبعضها ما يزال مستعملا إلى الآن، نظرا لصلابته ومقاومته عوادي الزمن، في مقابل بنايات نشأت في العقود الأخيرة، بدا عليها التشقق وعلامات التضعضع والإشراف على الانهيار، فهُجِرت خوفا من حدوث الأسوأ.

من هذه البنايات، البناية الشامخة التي هي الآن مقر كلية الآداب بظهر المهراز بفاس، حيث إن هذه العمارة المكونة من طابق أرضي وخمسة طوابق مازالت لحد الآن تشهد على صلابتها ومتانتها، رغم التغييرات التي تُدخل على قاعاتها سنويا بمختلف طوابقها. وبجانب هذه العمارة أكثر من بناية، لا تتجاوز الطابق الأرضي إلا بطابق واحد في أقصى الأحوال، بُنيت حديثا وبهندسة حديثة، ومع ذلك يخشى الداخل إليها من أن تنهار عليه. من هذه البنايات بناية كلية العلوم بظهر المهراز أيضا، التي لا تبعد عن بناية كلية الآداب بأكثر من مرمى حجر، ومع ذلك فيها ممرات وقاعات لا تستعمل خشية السقوط، ومثل ذلك البناية الأخرى التي تتخذها منذ إنشائها جامعة القرويين مقراللرئاسة.

هاتان البنايتان أنشئتا حديثا، وبهندسة حديثة وأدوات حديثة، ومع ذلك تآكلتا وأشرفتا على الانهيار.

والمرء حينما يشاهد هذه البناية المرتفعة التي تشغلها كلية الآداب بظهر المهراز بطوابقها العالية، وبجانبها هاتان البنايتان الملتصقتان بالأرض والمتهالكتان، تدركه الحيرة، ويمتلئ تعجبا، ولا يملك إلا أن يتساءل :

< هل الهندسة المعمارية في الثلاثينات والأربعينات من القرن الميلادي الماضي كانت أعلى دقة، وأرفع مستوى من هندسة الثمانينات من نفس القرن؟

< هل مواد البناء وعتادُه الذي كان يُستعمل في تلك الحقبة القديمة كان أمتن وأصلب  وأكثر تطورا مما كان يستعمل بعد ذلك في العهود القريبة من سنواتنا هذه؟

< أم أن إنسان ذلك الزمان ليس هو إنسان هذا الزمان؟ وعقلية تلك الأمة ليست عقلية هذه الأمة؟

< أو لنتساءل بصورة أكثر وضوحا ولنقل : هل الدول الاستعمارية التي كانت تحكم بلدنا في النصف الأول من القرن الماضي كان رجالها أقدر وأبدع وأقوى على تخليد مآثر عمرانية من رجالنا ونسائنا نحن في هذا العصر، بحيث إننا لم نستطع أن ننجز أبسط بناية تصمد أمام عوادي الزمن.

الجواب نعم، إن المشكلة مشكلة الإنسان، مشكلة عقلية، مشكلة ضمير، مشكلة تفكير، مشكلة ثقافة.

ضعف إيماننا وسخافة تفكيرنا تدفعنا إلى الغش وعدم إجادة العمل، فيتقدم الآخرون ونتخلف نحن، ويزدهر اقتصادهم ويتضعضع اقتصادنا، وتنمو بلادهم وتتقهقر بلادنا، ثم بعد ذلك لا نستحيي من ادعاء الزعامة والرقي والتطور و…و..والجسارة على الطعن في كل شيء وخاصة في الدين.

د.عبد الرحيم بلحاج

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>