تفسير سورة التغابن 58 – موقع الإنفاق في المشروع الحضاري الاسلامي


[وأنفقوا خيرا لأنفسكم]

موقع الإنفاق في المشروع الحضاري الاسلامي

الدعوة إلى الإنفاق دعوة إلى امتلاك المال

نظراً لما من خير كبير في الانفاق، فإن الإسلام يدعو الناس إلى مشروع اقتصادي وحضاري شامل جامع، ذلك أن الدعوة إلى الانفاق على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول هي بالتالي -وبحكم أن مالايتم الواجب إلا به فهو واد- هي دعوة إلى امتلاك القدرة وامتلاك المال الذي ينفق، فإذا كان الله تعالى يدعو المؤمنين إلى أن ينفقوا، فهذا يقتضي -عقلا- أن يكونوا مالكين لشيء حتى ينفقوه، إذ أن العادِم للشيء لا يمتلك أمام هذه الآية إلا أن يَتَحَسَّر، إذ لا يمكنه أن يستجيب لها لأنه لا يجد في يده شيئا ينفقه، وبالتالي فإن الدعوة إلى الانفاق هي دعوة بالتّبع إلى امتلاك المال، فإذا كان للإنسان رغبة في أن يؤدي الفرائض المالية التي يتوقف أداؤها على المال كأداء الزكاة مثلا وكأداء الحج، وكالنفقات العامة، والنفقات الخاصة، فإنه إذا أراد أن يستجيب لهذا الأمر الإلاهي، وإذا أراد أن يفوز بالثواب الذي يحصله الذين ينفقون، فما عليه إلا أن يسعى إلى امتلاك المال حتى يتيسر له أداء هذا الواجب. إنك إن قلت للإنسان : اصعد إلى السطح، وهو في الأرض، فإن عملية الصعود تقتضي -عقلا- أن يتخذ جميع الوسائل التي تؤدي إلى ذلك، كأن ينصب لذلك سلما، وكأن يصنع سلما إن لم يكن السلم مصنوعا، فلابد من فعل أشياء حتى يمكنه أن يصل بعد ذلك إلى السطح. للصعود للسطح لا بد من إتيان أسبابه، فالله تعالى يدعو المسلمين إلى أن ينفقوا، فكيف ينفقون وهم فقراء معدمون؟ إن هذه الآية تُرَجِّحُ قوْلَ الفقهاء الذين ذهبوا إلى ترجيح الغني الشاكر على الفقير الصابر، إنها ترجح جانب القوة في الأمة الإسلامية وتدعو إلى أن تكون الأمة الإسلامية بالوضع الذي يساعدها على أن تنفق، هذا على مستوى الأفراد والجماعات.

الدعوة إلى الإنفاق دعوة إلى القوامة الحضارية والشهادة على الناس

إن الدعوة إلى الإنفاق، هي دعوة إلى النهوض بواجب القوامة الذي رشحت له الأمة الإسلامية، حيث أن هذه لأمة مرشحة لأن تكون قوامة على الأمم الأخرى وجعلها الله تعالى شاهدة على الأمم الأخرى، {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على النّاس} فإذا كنا نريد أن نقوم بهذه المهمة، مهمة توجيه الأمم، وتصحيح أخطائها، وإرجاعها إلى الحق وإلى الصواب، فإن هذا يستدعي منا أن نكون أمة منفقة، لا أمة آخذة. إن هناك خطين متعاكسين في الأمة الفقيرة والتي تحلم بأن تؤدي رسالة الإسلام، إذا كانت هذه الأمة تستعطي الغير، وتعيش على صدقات الغير، وتعيش على ما يتفضل به الغير عليها، لا تملك قوتها، لا تصنع سلاحها فإنها أمة تستقبل، فكيف بين عشية وضحاها -وهي على ما هي عليه من ذلة ومن صَغَارٍ- تقوم هذه الأمة وتزعم لنفسها أنها قادرة على أن توجه الشعوب والدول التي تنفق عليها وتطعمها؟ مستحيل، إن واجب القوامة يفترض كذلك أن تكون الأمة ممتلكة للمال، بحيث تستطيع أن تقوم بهذا الواجب من موقع العطاء ومن موقع القدرة، إذ الأمة الذليلة التي لا تتحكم في غذائها لا يمكن أن تصدر أفكارها، هي أمة أقصى ما تفعله أن تدافع عن نفسها إن استطاعت، هي مَغْزُوَّة، مغزوة بوسائل الإعلام، مغزوة بكثير من وسائل الغزو، ولكنها في نفس الوقت تطمح أن تكون أمة شاهدة على الأمم الأخرى، لما نسمع مصطلح الدول المانحة نتصور أمامها الدول الممنوحة، ونحن دائما نأتي في صف الدول الممنوحة، التي تأخذ المنح وليست الدول المانحة، إذا كنا نحن نستقبل صدقات الآخرين وكان هذا هو الاسم الذي نعرف فيه في الناس، فإن هذا لا يساعدنا ولا يرشحنا لأن نقوم بمهمة كبيرة، إن الإنفاق جزء ملازم، أو شرط ضروري لأن توجد الأمة في الوضع الذي يساعدها على أن تقوم بهذه الرسالة.

الانفاق يحفز على بناء المشروع الحضاري

ثم إننا حينما نتحدث عن الإنفاق الذي يرشحنا لأن نقوم بواجبات، نتحدث عن الانفاق الذي يحفزنا لأن ننهض باقتصادنا، إننا حينذاك نفكر أن نكون ككل الدول التي لها مشاريع حضارية؛ إن دولا كثيرة، تنفق الكثير من المال على وسائل الإعلام، على الدوريات، على الكتب وغيرها وتصدر ذلك، تصدر فكرها وتصدر لغتها، وتصدر عاداتها، وتصدر تقاليدها، وتصدر كذلك القنابل الملغومة إلى الشعوب المستضعفة، لأنها تمتلك نظرة حضارية معينة، إن هناك شعوبا تفرض نظامها التربوي، تعطيه مقايضة في بعض الإعانات التي تمنحها لبعض الدول، إن دولا عظمى تتدخل في قضية النسل، في عدد البشر في الدول المستضعفة وتجعل ذلك ملازما وتجعل ذلك شرطا لتتبع هذه الدول بهذه المساعدات، إذن فهذه تمتلك مشروعا، لها رؤية مستقبلية، تطمح يوما ما أن تعود استعمارا جديداً، تطمع يوما ما أن تُجْهِز على الإسلام، لكن هذه الأمة التي لا تنفق، والتي تمسك المال، أو تعبث به وتلعب به وتهدره وتكدسه في بنوك الغرب، إن هذه الأمة لا يمكن أن تزعم وأن تدعي أن لها مشروعا حضارياً أبداً، نحن الآن كأمة نحلم بأن يكون لنا في المستقبل دور في مصير العالم، في توجيه العالم، ومن خير العالم أن يكون لنا نحن رأي في توجيهه، لأن العالم الآن منتكس، لأن العالم الآن ساقط وهابط بشهادة أصحابه، إذن حتى نكون نحن في هذا المستو”ى، لابد أن نكون بالوضع الضروري المادي الذي يجعلنا ننفق على مشاريعنا الحضارية.

المنفق صاحب قضية

مع الأسف الشديد أيها الإخوة، نحن لا ننتبه لهذا الأمر، في سيرة رسول الله ، وفي قصة إنفاقه وبذله الشيء الكثير، فيما ورد في كتب السيرة في أخباره . لكن يستوقفنا دائما هذا النص الذي ذكره بعض الصحابة رضوان الله عليهم وهو يقول : كان رسول الله  لا يسأل على الإسلام شيئا، إلا أعطاه، أي من أجل أن يسلم الناس يُسأل عن أي شيء فيعطي، كان يعطي بسخاء، يعطي في أي مشروع يؤدي إلى انتصار الإسلام وإلى فُشُوِّ الإسلام وإلى وصوله إلى الآخرين. إذن كان يعطي الكثير، يعطي الفقراء، يعطي المعوزين، لكن أفضل شيء كان يختاره النبي  في العطاء أن يعطي من أجل انتصار الإسلام، من أجل غد الإسلام، وبعطائه ذلك يتحول الكثير من صناديد العرب وتحول الكثير من الناس لأنهم رأوا في ذلك تكريما لهم، لأنهم رأوا الرسول  يعطي غنما بين جبلين فيرجع الرجل إلى قومه فيقول : إن هذا ما سخت به إلا نفس نبي، أي أن الرجل إذا صار يعطي غنما بين جبلين فمعنى ذلك أنه ليس من المتمولين، ليس من الجامعين، وإنما هو صاحب قضية، إن هذا المال الكثير الذي أعطاه لا تسخو به إلا نفس نبي. أين عطاء حاتم الطائي وقد سارت بذكره الرُّكْبانُ؟ أين عطاؤه من عطاء الرسول ؟ إن حاتما أعطى شيئا قليلا وسمي كريما في العرب، والعرب اعترفت له بذلك، لكن رسول الله  أعطى أضعاف ذلك كثيراً من أجل أن يقرب الناس إلى الإسلام.

نحو رؤية حضارية لعبادة الإنفاق

نحن ماذا أعطينا، نحن حينما يفضل لنا شيء من المال نفرغه في النوافل، أقصى ما نفعل كما قلت أن نؤدي عمرات متتالية، أو حجا مكروراً، ولكن لا أحد يفكر في أن لا يكون الإنفاق من أجل إطعام الناس فقط، وهذا أمر حسن، ولكن من أجل أن ينهض بالناس بمشروع إسلامي، من أعطى من أجل أن يطبع الكتاب الإسلامي؟ من أعطى من أجل أن توجد صحافة إسلامية؟ من أعطى من أجل أن توجد وسائل الإعلام الإسلامية؟ تعرفون أن المنحرفين في العالم الإسلامي تمكنوا الآن من السيطرة على وسائل الإعلام والتأثير، الناس يتحدثون الآن عن الأنترنيت وعن خيوط الاتصال، وأصبحت الفئة الضالة بإمكانها الآن أن تزود شبكة الأنترنيت بمعلومات عن اتجاهها وأهدافها وتزين آراءها، فأي طالب علم في جهة قصِيّة من العالم يضغط على زر، فيخرج له بيان بهذه الطائفة، وأقوالها وفلسفتها، إذن أصبحت الدعوة الآن بطريقة متقدمة جداً ومتطورة جداً، المسلمون الذين من المفروض أن يبلغوا الفكر النظيف إلى الناس، مااستطاعوا أن يدخلوا عالم الإعلاميات، بالشكل المطلوب لماذا؟ لأنهم لا يعرفون شيئا اسمه الانفاق من أجل المشروع الحضاري. إن الانفاق إما ألا يوجد، أو أن يوجد بالطريقة التي تناسب مستوانا، أي نحن لنا مستوى منحط، أو فينا سذاجة وبساطة، فحتى إنفاقنا يتماشى مع هذه السذاجة وهذه البساطة. ولكن آن الأوان أن ينتبه الناس إلى أن الانفاق فعلا هو خير لهذه الأمة، خير في تحريك اقتصادها، خير من أجل جعلها في المكانة التي تناسبها، خير من أجل أن تشارك بمشروعها الحضاري، بأن تقدم للناس الإسلام. ولكن كل هذا كما قلت يتوقف على الإنفاق، وثقوا أن جميع الذين ظهرت مذاهبهم، ولو كانت منحرفة، قد أعطوا من أجلها الشيء الكثير، ورصدوا لها الجهود والأموال والكفاءات حتى رفعوا الباطل إلى مستوى الحق. ولكن أهل الحق نائمون ويتحسرون ويتألمون ولا يزيدون على ذلك شيئا، ولكن ليس من سنة الله تعالى أن ينصر الأفكار الجميلة والمبادئ الحسنة بهذه الكلمات أو هذه الأحاسيس النبيلة.

أ.د. مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>