مـــن شـــروط النـصـر


{يَاأَيُّهَا الذِينَ آمنُوا إِذَا لَقِيتُم فِئَةً فاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لعَلَّكُمْ تُفْلِحُون. وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ، ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُم، واصْبِرُوا، إنّ اللّه مع الصّابِرِين. ولا تَكُونُوا كالذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ بَطَراً ورِئَاءَ النّاسِ ويَصُدُّونَ عن سَبِيل اللَّهِ، واللَّه بِما يَعْمَلُون مُحِيطٌ. وإذْ زَيَّن لَهُم الشَّيْطَانُ أعْمَالَهُمْ وقَالَ لا غَالِبَ لَكُم اليَوْمَ مِن النّاسِ وإِنِّى جَارٌ لَكُم، فَلَمّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ نَكَصَ علَى عَقِبَيْه وقَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمُ إِنِّيَ أَرَى مَالاَ تَرَوْن إِنِّيَ أخَافُ اللَّهَ، واللَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ. إِذْ يَقُولُ المُنَافِقُون والذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ، ومَنْ يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الذِينَ كَفَرُوا المَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأَدْبَارَهُمْ وذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ. كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَونَ، والذِينَ مِن قَبْلِهِم كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِم، إِنّ اللَّه قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وأنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَونَ، والذِين من قَبْلِهِم كَذَّبُوا بآيَاتِ رَبِّهِم فأَهْلكْنَاهم بِذُنُوبِهم، وأغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْن، وكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِين}(الأنفال : 46- 55).

المعنى

هذا المقطع يحدد أهم شروط النصر، إنه نداء وتوجيه للمؤمنين بضرورة الثبات عند اللقاء وقتال الأعداء والصبر على مبارزتهم، وأمرٌ لهم بذكر الله في تلك الحال وألا ينسوه بحال، بل عليهم أن يستعينوا به مستغيثين به، ثم يتوكلوا عليه ويسألوه النصر على أعدائهم وأن يطيعوا الله والرسول حقا طائعِين طيِّعين ثم لا يتنازعوا فيما بينهم فيختلفوا فيتخاذلوا فيفشلوا ثم تذهب قُوتهم ووحدتهم، فيدبّ إليهم الوهن.

ولقد طالبهم بالصبر على شدائد الحرب وأهوالها فإن الله مع الصابرين بالنصر والعون وهذه هي المعية من الله وإنها لضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح.

ونهاهم بألا يكونوا ككفار قريش حين خرجوا لبدر عتواً وتكبراً، وطلباً للفخر والثناء كما قال فرعونهم أبو جهل : >لا والله، لا نرجع حتى نرِد ماء بدْر ونَنْحَر الجُزُر، ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً<.

قال الطبري : فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.

واللهُ عليم بما جاءوا به ولهذا جازاهم عليه شر الجزاء.

ولقد حسََّّن لهم الشيطان لعنة الله عليه أعمالهم القبيحة وما جاءوا له وما هموا به، وأطمعهم بأنه : لا غالب لهم اليوم من الناس وأنه مجير ومعين لهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.

روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رايته، في صورة رجل من بني مدلج في صورة (سراقة بن مالك) قال الشيطان للمشركين : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله  قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فَوَلَّوْا مدبرين، وأقبل جبريل \ إلى ابْليس، فلما رآه وكانت يَدُه في يد رجل من المشركين، انتزع يده ثم ولى مدبراً وشِيعَتُهُ، فقال الرجل يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال : إني أرى مالا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب، وذلك حين رأى الملائكة.

فتولى الشيطان هو وأعوانه مُولين الأدبار، وهذا مبالغة في الخِذْلاَن لهم والتخلي عنهم وعَدَهُم فأخلفهم وذلك جزاؤهم.

ومشهد آخر هو مشهد أهل النفاق الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر لضعف اعتقادهم بالله إذ قالوا : اغتر المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به فقال الله راداً كيْدَهم وإفكهم {مَنْ يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فمن يعتمد على الله ويثق به فإن الله ناصره لأن الله عزيز لا يُذل من استجار به، حكيم في أفعاله ولا يضعها إلا في مواضعها، فينصر من يستحق النصر، ويخذل من هو أهل لذلك.

هذا ولتنْظر مشهد {وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الذِينَ كَفَرُوا المَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأَدْبَارَهُمْ وذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ} تنظر أيها المخاطب، أيها السامع حالة الكفار ببدر حين تقبض ملائكة العذاب أرواح الكفرة المجرمين الظلمة،  لرأيت هولاً وأمراً فظيعاً وشأناً لا يكاد يوصف {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأَدْبَارَهُمْ} تضربهم الملائكة من أمامهم وخلفهم، على وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد، ويقولون لهم ذوقوا يا معشر الفجرة عذاب النار المحرق. بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا جازاكم الله بها هذا الجزاء، وأن الله لا يظلم أحداً من خلقه، بل هو الحَكم العدل الذي لا يجور، وصيغة {ظلاّم} ليست للمبالغة وإنما هي للنسب، ليس منسوباً إلى الظلم فقد انتفى أصل الظلم عنه سبحانه وتعالى. جاء في الحديث القدسي الصحيح : >يا عبادي إنّى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه<.

ودَيْدَنُ الكفار واحد في الإجرام عبر الزمان كعمل وسنة آل فرعون ومن تقدمهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود في العناد والتكذيب والكفر {فأخذهم الله} بسبب ذنوبهم أهلكم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب.

ولْنَسْتَمِع إلى هذه السنة الماضية : {ذلك بأنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وأنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}  إذ يقرر الله ويُقرُّ تمام عدله وقِسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحدٍ إلا بسبب ذنب ارتكتبه {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم}.

وخاتمة هذه الآيات {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَونَ، والذِين من قَبْلِهِم كَذَّبُوا بآيَاتِ رَبِّهِم فأَهْلكْنَاهم بِذُنُوبِهم، وأغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْن، وكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِين} تكرار وتأكيد لزيادة التشنيع والتوبيخ على إجرامهم أي شأن هؤلاء وحالهم كشأن وحال المكذبين السابقين سلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم من جناتوعيون ونَعمة كانوا فيها فاكهين بسبب ذنوبهم. فعذب بعضهم بالخسف وبعضهم بالحجارة وبعضهم بالغرق ولهذا قال : {وأغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْن}. وكل من الفِرق المكذبة كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي حيث عرَّضُوها للعذاب باختيارهم.

المستفادات

1-  إن كان نصر المسلمين ببدر لتوفر شروط النصر فيهم فإن الله أراد أن يُجَلِّيَ شروط النصر مفصلة لهم ولنا أيها المؤمنين، حتى تكون دستوراً يتحقق به النصر، وتلكم الشروط هي :

< الثبات،

< ذكر الله،

< طاعة الله والرسول،

< عدم التنازع،

< الصبر

وتستفاد عدة فوائد  على رأسها :

ذكر الله،  لأن ذكر الله عنه يتفرع الثبات والطاعة لله والرسول وعدم التنازع ووجوب الصبر. وذكر الله معناه استحضار الله في القلب استحضاراَ شاملاً لا يغيب عن القلب لحظة مهما كانت الحوافز والدوافع ومن كان الله في قلبه كان الله معه. فإن ذكر الله مخ العبادة وهو أدب هذاالوقت. فالرسول  يناشد ربه، والمسلمون التجؤوا إلى الله إلتجَاء المُضْطَر، وهذا أعقبه الثبات عند اللقاء وأعقبه الصبروأعقبته الطاعة التامة لله.

ويشبه ذلك ما كان بين طالوت وجالوت، فالمومنون حقّاً الذين لا يريدون إلا لقاء الله هم الذين تَيَقّنوا من النصر على قلّتهم لأن الله معهم {كم مِن فئة قليلة غلبت فئة كثيرةً بإذن الله..} ولذلك طلبوا من الله الصبر وتثبيت الأقدام {رَبَّنا أفْرغ علينا صبراً وثبِّت أقدامنا على الصراط}.

وفي غزوة الأحزاب كان الله حاضراً في قلوب المومنين طيلة بِضْعٍ وعشْرِين يوماً يؤيِّد ذلك قوله تعالى {ولَمّا رءا المومنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق اللّهُ ورسولُه، ومازادَهمُ إلا إيمناً وتسليماً}، فكانت النتيجة أن الله قال لهم {اذْكروا نعمة الله عليكم} حيث أمدهم بجنود من عنده فهزموا الأحزاب هزيمة منكرة ورجعوا خائبين {ورَدّ الله الذين كفروا بغيضهم لَم ينَالوا خيراًوكفى الله المومنين القتال}(الأحزاب).

2- نأخذ من قوله تعالى {ولا تَكُونُوا كالذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ بَطَراً ورِئَاءَ النّاسِ ويَصُدُّونَ عن سَبِيل اللَّهِ} فوائد كثيرة من جملتها :

أ- أن كل إنسان لابد أن يضع أمامه هدفاً يريد تحقيقه، فأهداف الكافرين هنا لا فائدة لها على الإنسان وإنما هي مجرد غرور وعلو في الأرض وفسادا.

ب- هذه الأهداف الدنيوية الافسادية لا يباركها الله تعالى أبداً مهما تلمَّعَت وتزيّنت بالكثير من أنواع الإغراءات فمَآلُها الخسار والبوار ولهذا نهى الله المسلمين على أن يجعلوا أهدافهم كهؤلاء {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علُواً في الأرض ولا فساداً}.

جـ- وبالمقابل في هذه السورة نجد أن الله تعالى رسم للمومنين بنفسه الهدف الذي ينبغي أن يكون أمام أعينهم وهو {ويُريد الله أن يُحق الحق بكلماتِه ويقطع دابر الكافرين ليُحق الحَقّ ويبطل الباطل ولو كره المُجرمون}.

د- من كان هذا هو هدفه من المومنين فإن الله تعالى يباركه ولا يخشى أي قُوّة في الأرض.

3- استهزاء الكُفار بالمسلمين لا ينبغي  أن يهزم المسلمين نفسيا بل ينبغي أن يَصبروا ويثبتوا على دينهم وإيمانهم بربهم وذلك هو الرد الحقيقي على استهزاء الكفار {لنا أعْمالُنا ولكم أعمالكم…}.

4- نأخذ من {كدأب آل فرعون…} المعادة مرّتَين فائدة عظيمة هي أن فرعون وأهله لم يكونوا من الممارسين للكفر الصغير بل كان كفرهم كُبّاراً حيث أوصل فرعون نفسه إلى درجة الربوبية وهذه قمة الكفر.

وقريش لم يكونوا مثله ولكن الله يُعاقب الكافرين الكبار والصغار لأن الكفر ملَّةٌ واحدة وكله انحراف عن طريق الله وإفساد للأرض والإنسان والبيئة والفطرة.

إنما عقاب ليس كعقاب، فعقاب قريش لم يكن استأصالاً أما بالنسبة للطّغَاة الكِبار استئصالاً كبيراً ولذلك فوعون وقومه أغرقهم الله كقوم نوح.

5- تُعطينا الآية : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} قانونا ربانيا صارماً وهو أن الله تعالى لا يُغيّر أحوال الناس حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم من الفطرة السليمة وحب العبودية لله. ولهذا لا بأس من التذكير بحديث يعتبر حديثاً يشبه المعادلة الرياضية إذا فعلت كذا تحصل على كذا وهو قول الرسول  : >كَيْف أنْتُم إذا وقعَت فِيكُم خَمْسٌ، وأعوذ باللّه أن تكون فيكُم أو تُدْرِكوهُنّ؟ ما ظَهرتِ الفاحِشة في قومٍ قَطُّ يُعمَلُ بها فِيهم علانِيةً إلا ظَهَر فِيهم الطّاعون والأوْجاع التي لم تَكُن في أسْلافِهم. وما مَنع قومٌ الزّكاة إلاّ مُنِعُوا القَطْرَ من السَّمَاءِ، ولَوْلا البَهائِم لم يُمْطَروا. وما بَخَسَ قوم المِكيالَ والمِيزان إلاّ أُخِذُوا بالسِّنين وشِدّةِ المُؤْنة وجُورِ السُّلْطان ولا حَكَم أُمَرَاؤُهُم بغَيْر ما أنْزل الله إلا سَلَّط الله عليهم عدُوّهم فاسْتَنفَد بعضَ ما في أيْدِيهم، وما عَطَّلُوا كِتابَ اللّهِ وسُنّة نَبيّهم إلا جعل الله بَأْسَهم بيْنَهُم<(رواه الإمام أحمد وابن ماجة).

رشيد صدقي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>