إحقاق الحق وإبطال الباطل من خلال سورة الأنفال


تنطوي غزوة بدر الكبرى على دروس وعبر جليلة كما تتضمن معجزات باهرة تتعلق بتأييد الله ونصره للمؤمنين المتمسكين بمبادئ إيمانهم المخلصين في القيام بمسؤوليات دينهم.

لم يكن خروج المسلمين مع رسول الله  للقتال والحرب، وإنما كان قصدهم الاستيلاء على قافلة قريش القادمة من الشام تحت إشراف أبي سفيان، غير أن الله تبارك وتعالى أراد لعباده غنيمة أكبر، ونصرا أعظم, وعملا أشرف وأكثر انسجاما مع الغاية التي ينبغي أن يقصدها المسلم في حياته كلها، فأبعد عنهم العير التي كانوا يطلبونها، وأبدلهم بها نفيرا لم يكونوا يتوقعونه وفي هذا دليل على أمرين :

> الأمر الأول : أن عامة ممتلكات الحربيين تعد بالنسبة للمسلمين أموالا غير محترمة، فلهم أن يستولوا عليها ويأخذوا ما امتدت إليه أيديهم منها وما وقع تحت يدهم من ذلك اعتُبر مِلكا لهم. وهو حكم متفق عليه عند عامة الفقهاء،وليس لأحد الحق في أن يتقول بغير الحق على الرسول والمسلمين، فللمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأبنائهم في مكة عذر في القصد إلى أخذ عير قريش والاستيلاء عليها، وهو محاولة التعويض أو شيء من التعويض عن ممتلكاتهم التي بقيت في مكة واستولى عليها المشركون من ورائهم.

> الأمر الثاني : أنه على الرغم من مشروعية هذا القصد، فإن الله تعالى أراد لعباده المؤمنين قصدا أرفع من ذلك وأليق بوظيفتهم التي خلقوا من أجلها، ألا وهي الدعوة إلى دين الله والجهاد في سبيل ذلك، والتضحية بالروح والمال في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن هنا كان النصر حليف أبي سفيان في النجاة بتجارته بمقدار ما كانت الهزيمة العظيمة حليفة قريش في ميدان الجهاد بينهم وبين المسلمين، وإن هذه التربية الإلهية لنفوس المسلمين لتتجلى بأبرز صورها في قوله تعالى  :

{كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المومنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} (الأنفال : 5-  8).

تتحدث هذه الآيات الكريمة عن مشابهة بين أمرين :

1- أمر اختلاف المسلمين في الأنفال لمن تكون، ثم جعل هذه الأنفال مقرونة لله وللرسول يقضي فيها بما أوحى إليه ربه فيها.

2- وأمر إخراج الله تعالى لرسول  من بيته بالحق : ليلقى إحدى طائفتي المشركين وهي الطائفة المقاتلة، وكراهية كثير من المسلمين لهذا اللقاء لعدم استعدادهم له.

وحكمة ذلك الإخراج للرسول  من بيته ولقاء طائفة المقاتلين من الأعداء هي : إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولو كره المجرمون القائمون على الشرك بالله وتحدي الحق وأهله.

وقد اشتملت هذه الآيات الكريمة على جملة أخبار تضمنت عبرا وعظات جليلة القدر في مسار الدعوة الإسلامية وقدرتها على مواجهة أعدائها من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل.

ونقف مع هذه الآيات وقفة قصيرة قبل النظرة إلى ما يمكن استفادته واستنباطه من عظات وعبر تنير درب الدعاة إلى الله على مر الأزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

في قوله تعالى : {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون} أي أن المسلمين قد اختلفوا في الغنائم ومن يحوزها وكيف تقسم؟ ووصولهم في هذا الا ختلاف إلى تلك الحال الذي يتساءلوا فيه عن الأنفال، كحالهم التي اختلفوا فيها عندما أمرك الله تعالى بالخروج لقتال المشركين، وهذا الإخراج لك وهذا القتال للمشركين حق ثابت يجب القيام به، ومع ذلك كان فريق من المؤمنين كارهين للقتال، بل مؤكدين كراهيتهم له.

والمعنى أنهم مهما كرهوا هذا القتال الذي أمرك الله به، لأنهم لم يستعدوا له وإنما خرجوا لملاقاة العير، فإن النصر بيد الله تعالى ومقاليد الأمور إليه وحده، فليس لهم أن يكرهوا ما أمرك الله به من عمل.

{يجادلونك في الحق بعدما تبين…} الذين جادلوا رسول الله  في قتال المشركين هم بعض المسلمين لا كلهم، بدليل قوله تعالى : {وإن فريقا من المؤمنين لكارهون}.

والحق الذي جادلوا فيه : هو أمر الله بالقتال أي النفير.

والجدال هو قولهم : ما كان خروجنا للقتال وإنما كان  لأخذ عير قــريش وقولهم : هلا قلت لنا سنقاتل المشركين لنستعد ونتأهب للقتال. فقد كان جدالهم في القتال لأسباب رأوها، من أهمها ما نذكر بعضه فيما يلي :

- أنهم لم يستعدوا للقتال بحشد عدد أكبر من المقاتلين.

- وأنهم لم يحملوا معهم السلاح الملائم لخوض القتال.

- وأنهم لم يحضروا معهم أهم آلة للحرب آنئذ وهي الخيول، إذ لم يكن معهم إلا فارسان فقط.

ولكن هذا الجدال لم يكن له محل ولا مبرر، لأن الله تعالى قد بين لهم الحق، إذ أمر بالقتال ووعد رسوله  إحدى الطائفتين، وقد فاتت العير إذ هرب بها أبو سفيان، فلم يبق إلا النفير وقتال المشركين والانتصار عليهم.

وهم كارهون لهذا الخروج.

{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} ووعد الله محقق بكل تأكيد وهو منصب هنا على الحرب وقتال المشركين والانتصار عليهم.

{وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} أي تحبون أن تكون لكم العير بما تحمل من متاع، لا النفير بما يترتب عليه من حرب وكرب، وسمي العير : بغير ذات الشوكة أي الحدة والقوة، تعريضا بهم لإيثارهم العير والمال، وكراهيتهم الحرب والقتال.

وتؤكد هذه الآيات الكريمة أن خوض المؤمنين لمعركة بدر إنما كان لكي يحق الله بهذه المعركة الحق الذي أراده في كلماته التي أنزلها على رسوله ، عندما وعده إحدى الطائفتين، كما يريد الله تبارك وتعالى بهذه المعركة أن يقطع دابر الكافرين الذين عاندوا الحق، واضطهدواأهله وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم.

- يقول الزمخشري في التعليق على الآية الكريمة : {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم…}. يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفاسف الامور، وألا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم، والله عز وجل يريد معالي الأمور، وما يؤدي إلى عمارة الدين ونصرة الحق وعلو الكلمة والفوز في الدارين. وشتان بين المرادين، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسرقوتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم وأعزكم وأذلهم.

{ليحق الحق ويبطل الباطل…} أي لينصر الاسلام ويعلي رايته.

{ويبطل الباطل} أي يزيله ويمحقه، والباطل هنا هو الشرك والكفر.

وإحقاق الحق وإبطال الباطل لا يكون بالاستيلاء على العير، وإنما يكون بقتل أئمة الكفر والطاغوت، من صناديد المعاندين الذين خرجوا إليكم من مكة ليستأصلوكم.

المستفادات

يستفيد المسلمون من هذه الآيات الكريمة مجموعة من القيم التربوية التي بها يهتدون في كل المعارك التي يخوضونها إحقاقا للحق وإبطالا للباطل، والأصل في المسلم أن يعمل على إحقاق الحق وإبطال الباطل منها.

1- أن ما يأمر به الله تعالى وما ينهى عنه لا بد أن تكون له حكمة بالغة وهدف نبيل، وأن التدبر في هذا الموقف يجعل المؤمن حامدا لله شاكرا له إن أمره أو نهاه، لأن ذلك وعلى وجه اليقين لصالح الانسان إن امتثل.

2-  أن عدم امتثال أمر الله ونهيه ومعصيته لله ورسوله، وأن كراهية الامتثال تؤدي إلى المعصية والمعصية تؤدي إلى العقوبة، فعلى المسلم أن يُقبل على الامتثال برضى وسعادة وحمد وشكر الله تعالى.

3- أن من المسلمين من يجادلون في الحق على الرغم من وضوحه لأسباب معقولة في المنطق السببي، ولكنها غير معقولة في المنطق الإيماني المعتمد على الله تعالى وحده، مهما كانت الأسباب ضعيفة، لأن الله عز وجل يريد أن يظهر نصره للحق على شكل معجزة، فلا ينبغي أن نَسِمَالمجادلين بالانهزامية، وإنما ينبغي إقناعهم إيمانيا بان قوة الله تعالى قادرة على تعويض ضعف الأسباب إذا تحقق الإخلاص.

4- أن الجدال في الحق بعدما تبين يُسهم في إحداث القلق والاضطراب وفساد المعايير، ويؤدي إلى الخلل في الحكم على المواقف والناس والأشياء.

5-  أن ما يعد الله تعالى به أو يأمر، لا ينبغي التحول عنه، ولا يتصور أن غيره أنفع منه وأجدى، فقد كانت طائفة من المسلمين تتصور أن الحصول على العير التي مع أبي سفيان أجدى عليهم، ثم تبين لهم خطأ هذا التصور.

6- أن ما يأمر الله به أو يعد، قد يبدو مكلفا من الجهد والمال، بل من النفس، ومع ذلك فإن القيام به واجب، لأن فيه عزة للإسلام والمسلمين ونصرا للإسلام وقمعا للشرك وأهله، وفي ذلك إحقاق للحق وإبطال للباطل.

7- أن إحقاق الحق إرادة الله تعالى وأنه لذلك أنزل القرآن الكريم وشرع الدعوة إليه وإلى الحق وشرع النهي عن المنكر وأوجبالجهاد في سبيله لتكون كلمة الذين كفروا السفلى.

8- بعلو كلمات الله ينقطع دابر المشركين، حيث لا تقوم لهم قائمة، كما تنطق بذلك الآية الكريمة {ليحق الحق بكلماته، ويقطع دابر الكافرين}.

9- أن الحياة لا تستقيم إلا بأن يحق الحق ويبطل الباطل، فلو لم يحق الحق لضاع الانسان وخسر دنياه وآخرته، ولو لم يبطل الباطل، لفقد الانسان الأمن والطمأنينة ووقع الظلم والاضطراب واعتدى القوي على الضعيف، وعانى الانسان من الباطل أسوأ ما يعانيه في حياته.

10- أن إحقاق الحق عند التأمل والتدبر هو إظهار الإسلام وهيمنته على كل دين أو منهج أو نظام، لأنه الدين الخاتم الذي يُصلح أحوال الناس.

ولذلك كان إحقاق الحق هدفا وغاية لما فيه من الخير العميم للبشرية كلها في حاضر الزمان وآتيه.

خاتمة

قد يحب المسلم شيئا ويؤثره على غيره، وقد يكره شيئا ويؤثر غيره عليه، ويكون الخير فيما يكرهه لا فيما يحبه. وهذا ماوقع في الأحداث التي سبقت معركة بدر، فكان ميل المسلمين أن تكون لهم العير لا النفير لسهولة الاستيلاء عليها، ولم يتبين لهم آنذاك الخير العظيم الذي سيتحقق لهم في مواجهتهم لنفير قريش والتغلب عليهم، وكسر شوكتهم، وإعلاء كلمة الحق، وتقوية نفوس المسلمين، وإرهاب أعداء الإسلام، إلى غير ذلك من النتائج الحميدة التي ما كان يمكن أن تحصل لو كان نصيب المسلمين الاستيلاء على قافلة قريش. وقد أشار القرآن إلى هذا في قوله تعالى : {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين}.

فعلى الدعاة أن يؤثروا دائما ما فيه الخير وما هو الأصلح والأنفع للدعوة، وإن كان فيه شيء من الصعوبة والمشقة، لأن الأصلح والأنفع للدعوة هو ما يحبه الله، والشأن في المسلم أن يؤثر ما يحبه الله على ما تحبه نفسه وإن كان ما تحبه نفسه مباحا.

ذ. عبد الحميد الرازي

———-

المصادر :

-  الكشاف للزمخشري

- فقه السيرة النبوية

-  التربية الإسلامية من خلال سورة الأنفال/د. عبد الحليم محمود

- المستفاد  من قصص القرآن.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>