نفحات : الحاجة إلى الإيمان


الإيمان نور يشع على النفس فيضيء جنباتها ويطهرها من الأدران، ويهيئها لتعانق الكون وما فيه، وتستكشف عوالمه الروحية المهذبة السامية، وفق رؤية يغذيها الإحساس المرهف بعظمة الخالق وجمال الكون، ويوجهها الشعور النبيل بما يملأ الوجود من قيم ووشائج تصل بين مكوناته وعناصره، وتحدد الغاية السامية للخلْق، وما شرَّف الله به الإنسان من وظائف تحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، إن هو وَعَى مسؤوليته في الوجود، وأدرك ما كرَّمَهُ به خالقه من نعم لا تحصى ولا تعد.

إن الحديث عن نعم الله ضرب من الشكر للخالق لتتوالى نعمه وتزداد، فإن كان هذا الحديث فنا جميلا كان أبهى وأروع، لأنه يحقق التواصل ويبث الوعي ويدعو إلى الخير والنبل، ويأتي الشعر في قمة وسائل التعبير الفني، حتى إن النبي  صور عمق تأثيره ولطف فاعليته بالنفوس بدور السحر، واعتبره حكمة في حديثه المشهور الذي أثنى فيه على الشعر الجميل ومدح البيان اللطيف النبيل بقوله  :”إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة”.

وقد اجتمع الإيمان الصادق والبيان الجميل في عدد من الناس في كل زمان ومكان، فحفظ التاريخ أسماءهم وإنتاجهم، ينتفع به اللاحقون جيلا بعد آخر، ويستوحون منه ما يغنون به تجاربهم، ويشحنون أنفسهم بالمزيد من الإيمان الباعث على التآخي والتسامح والتقارب والتسامي وما إلى ذلك من القيم الإنسانية النبيلة.

ولأن الله عزوجل قد خلق الإنسان وجعله مدنيا بطبعه، وسخر له ما في الكون لتحقيق الغايات السامية من الوجود، فقد ظهر أناس موهوبون في كل عصر ومصر، تميزوا بإدراك سمو تلك الأهداف، وامتلكوا من الفكر ورجاحة العقل وحلاوة اللسان والقدرة على الإقناع ما جعلهم يضطلعون بالدعوة إلى الخير والتسامح، ونشر قيم السلم والتنفير من الشر وكوارثه، واستطاع هؤلاء الدعاة أن يواصلوا نشر الرسالة الإلهية التي حمَّلها الله أنبياءه ورسله، وهي رسالة واحدة في جوهرها وروحها، هدفها إرشاد الإنسانية إلى ما يسعدها، وتذكيرها بالمسؤولية الجسيمة النبيلة التي حملها الإنسان، وخاتمتها رسالة الإسلام السمح الحنيف الذي جعله الله كاملا وعاما لجميع البشرية.

وقد استوحى الأدباء والشعراء والمفكرون من القيم الدينية النبيلة ما هذبوا به نصوصهم وإنتاجهم، فحثوا على فضائل الأخلاق، وحببوا إلى الناس الخير والتسامح، وحثوا على أسلوب الحوار بدل التطاحن والصراع، ودعوا إلى حقن الدماء بدل سفكها، فخلدت أسماؤهم، وظل إنتاجهم محتفظا بسمو مضامينه وصفاء عبارته، ونبل الرسالة التي اضطلعوا بها.

غير أن الواقع اليوم يبدو مكفهرا، والقيم النبيلة غابت أو كادت، فالحروب والاصطدامات الدامية هي الغالبة، والغلو  يهدد  الأرواح والممتلكات، وقتل النفوس بغير حق يتزايد بقسوة غير معهودة، والفقر يكاد يعم أكثر من نصف ساكنة العالم، وفئات قليلة تنغمس في الغنى الفاحش، فلماذا هذا البون الشاسع بين العقيدة السامية الصافية والواقع المنحط في حياة الناس؟.

أَضَعُفَ الإيمان في النفوس إلى هذه الدرجة التي أدت إلى جملة من المفارقات التي لم يسبق لها مثيل في حياة البشرية؟ أطغت الذات وما يغذيها من أهواء وشهوات إلى  الحد الذي غدت فيه قيم النبل والخير والتسامح غريبة عن سلوك الإنسان؟ ولماذا هان الإنسان على الإنسان إلى هذه الدرجة المنحطة من الهوان؟ ولماذا أصبح الإنسان لا يكاد يستيقظ حتى يفاجأ بما هو أسوأ من أمسه وأفظع وأشنع؟ وعَمَّ سيسفر هذا المخاض العسير؟ هل سيظل لأصوات الحق والسلام والتسامح وحسن الجوار والمصلحة العامة حضور أم أنها ردة إلى العصبيات والحمِيَّات والمنافرات التي تأتي على الأخضر واليابس، فتُزهق الأرواح هنا وهناك، وتُدك المباني، وتُنهب الخيرات، وتداس القيم؟.

وهل يمكن أن يعود العالم إلى التشبت بالمبادئ والمثل العليا، ويتجاوز واقعه المنحط ويتسامى على الغرائز والأهواء الدنيا دون التسلح بسلاح الإيمان؟.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>