قبسات من مدرسة النورسي : طرق الإرشاد في الفكر والحياة : الحلقة التاسعة : جوانب التبليغ المتوجهة إلى الحق سبحانه وإلى الخلق 2/1


إن مهمة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إما أن تؤدّى لوجه الله، أو تؤدّى بما شرعه الله سبحانه من إحقاق الحقوق بين الناس.

إن مسؤولية التبليغ والإرشاد مسؤولية كل فرد تجاه ربه. فكل فرد عليه أن يعتقد بأنه مكلّف بهذه الوظيفة، ويسعى لها سعيه للصلاة. ولا سيما وقد أُهملت هذه الوظيفة، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى استولت المنكرات على المرافق كافة. وهذه المهمة الجليلة تحوز أهمية أكثر من الفرائض الشخصية، إذ لا يمكن الكلام حول الصلاة والزكاة والحج إن لم تُنجز هذه المهمة. وبخاصة في العهود المظلمة التي تُروّج فيها المنكرات ويُمنع المعروف، فالأمة قاطبة تكون مسؤولة في هذه الحالة.

ولا أعلم مهمة أجلّ من هذه المهمة في يومنا هذا، ولهذا أعتقد أن من نذر حياته لهذه المهمة فإن دنياه وآخرته ستكون عامرة بإذن الله. فكل شخص مضطر لأداء هذه المهمة الملقاة عليه سواء بالإفهام أو بالكتابة أو بالتأليف. وليؤدّها بأي طريقة كانت إلاّ أن عليه أن يؤديها حسبةً لله، ومنـزهة عن أغراض سياسية. ومن المعلوم أن تأثير هذا العمل ودوامه يكون بنسبة ما فيه من الإخلاص، وبمقدار ترفّعه عن الأغراض السياسية. ولا يمكن أن يعطى هذا العمل السامي ثماره من دون الإخلاص. فضلاً عن أنه سيكون وبالاً على صاحبه في الآخرة لحرمانه من الإخلاص. ولهذا فعلى القائم بهذه المهمة، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أن يعمله حسب فحوى الحديث الآتي:

>مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله عَزَّ وَجَلَّ<(1) أي لا بد أن يكون كل جهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ولا يداخله شيء آخر. سواء أكان القائم يقوم ببناء بيت أو مدرسة أو مبيت للطلبة أو أية مؤسسة أخرى تمليها ظروف تلك الحالات في المستقبل، فالغاية الأساس في كل ذلك يجب أن تكون بمستوى يليق بتحقيق هذه المهمة المقدسة.

إن إنشاء مؤسسة وإحداث وحدة دَعَوية لابد أن تملأ الفراغ الروحي لدى الشباب وتعيد بناءهم المعنوي إلى هويته الأصلية وصفائه الأصيل، ليحول دون تسلل الإلحاد والفوضى والإرهاب وانتشارها في صفوفنا. فكل حملة من الحملات التي تنهض بها الأمة في سبيل الله هي في الحقيقة كسر لشوكة الملحدين والفوضويين وتفتيت لعزمهم. فهي الحل الوحيد لصدهم فكراً وعلماً ونشاطاً، بل لإزالتهم كلياً بإذن الله.

ولننتبه إلى هذا أيضاً: أننا إن لم نملأ هذا الفراغ ولا نصدع بالحق بوجه الإلحاد والإرهاب والفوضى بأعلى صوتنا ولا نقول لهم: هذا الطريق مسدود، لا يمكنكم عبوره، فلا يبقى أي معنى للجهاد الذي بذله أجدادُنا لصد الروس واليونان والفرنسيين والإنكليز وأمثالهم من فرق الصليبيين عن حدود البلاد. فقد جعلوا أنفسهم وصدورهم هدفاً لطلقات الأعداء ومدافعهم وحرابهم، ودفعوا مئات الألوف من الشهداء. أي لا يبقى أي معنى لهذه التضحيات المعنوية. وأقول هذا من حيث عاقبتنا نحن، وإلاّ سيجازيهم الله سبحانه وتعالى بالحسنى ولا يضيع مثقال ذرة من أعمالهم.

نعم، إن فتحنا أبواب الأخلاق السيئة والفكر الهدام وما شاكلها من الفساد على مصاريعها، فماذا يعنى إذن جهاد أجدادنا وتضحياتهم؟ ألا يعني سلوكنا هذا هدر دماء أولئك الشهداء الأبرار هباءً؟

ولن يُهدر هباءً دم الثلاثمائة ألف شهيد ممن ضحوا رجالاً ونساءً بأموالهم وأنفسهم في جنق قلعة. فالروس الذين خرّبوا البلاد واهلكوا العباد في “بالان دوكن”(2) والأرمن الذين خانوا العهد وطعنوا من الخلف، فذهب بسببهم أكثر من مائتي ألف شهيد سطروا التوحيد بدمائهم في الثلوج التي تغطي الجبال الشاهقة.. نعم، لن تضيّع دماء أولئك المضحين! وإلاّ ستعاتبنا بشدة “نه نه خاتون”(3)، و”صوتجو إمام”(4)وآلاف من أمثالهم من الأبطال، فكيف ننجي أنفسنا من هذه المسؤولية الجسيمة؟. إذن نحن مضطرون أن نظهر تضحية مماثلة في سبيل دعوة أولئك الذين صدّوا هجمات الأجانب وضحوا بأنفسهم راغبين راضين مرضيين لئلا تداس أرض البلاد بأقدام الأجانب.

ولكن الفرق بين تضحياتهم وجهادهم أمس وما نحن بصدده هو فرق من حيث النوعية. فأجدادنا استعملوا في الجهاد السلاح مقابل السلاح، فكان هذا ما يجب أن يعملوه. أما نحن اليوم فعلينا أن نجابه الأعداء بالطرق والمناهج التي يستعملونها.. وهو الطريق الأسلم الأوحد للحفاظ على دماء أجدادنا من الضياع والهدر.

فإذن، فعليك أيها المسلم -من حيث الظروف وطرق النضال والكفاح الحالي- ولأجل إنماء الفكر الإسلامي وإنعاش نشوة العبادة، أن تبني بجنب التكايا والزوايا مؤسسات تتمكن من أن تؤدي المهمات نفسها التي كانت تؤديها في سابق العهود. فتهرع لإمداد الجيل الناشئ في تلك المؤسسات لملء عالمه الداخلي بروح الإسلام والشعور به. وليُعلم أن الجيل المحروم من المعنويات لا يمكنه أن ينهض بأداء أي عمل إيجابي بنّاء. لأن تربية شخصيات ذوى فعالية ونشاط عظيمين منوطة بهمّتك هذه وبجهودك هذه. فإذا ما سعيت سعياً حثيثاً بمنهج معين وطريقة محددة منسقة يمكن أن يظهر في جيلك أنت: أمثال الإمام الرباني والإمام الغزالي والشاه النقشبند ومحمد الفاتح وياووز سليم من العظماء وأمثال الفارابي وابن سينا ومحي الدين بن عربي ومولانا جلال الدين الرومي من نجوم الفكر وأقطاب الأولياء.

فلا يحول شيء من أن تزدهر في حدائقنا أمثال هذه الأزاهير الفواحة. ويكفي أن يتقن البستاني عمله ويبذل أقصى جهده.

ووجه آخر أيضاً للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيما يجب أداؤه باسم الحقوق المشتركة بين الناس، وهو في الوقت نفسه مسؤولية نابعة من الحياة الاجتماعية. فإن تحقيق الأخلاق الإسلامية والفكر الإسلامي كي يُستشعر بها ويُعاش بها هو في ضمن هذا القسم من المسؤولية الاجتماعية. فكما تعد من القواعد التي لا تتبدل بالنسبة للمسلم لمعاملاته اليومية في السوق وغيرها ضمن هذه المسؤولية كذلك الحقوق التي يجب أن تصان بين الأفراد، هي ضمن هذه المسؤولية أيضاً. والآن لنوضح الأمر في العدد القادم بحول الله.

—-

(1) البخاري، العلم،45؛ الجهاد والسير، 15؛ مسلم، الأمارة، 149-151؛ الترمذي، فضائل الجهاد، 16.

(2) جبل قرب مدينة أرضروم.

(3) رمز البطولة للمرأة التركية حيث دافعت ببسالة نادرة مع الجيش العثماني في حرب الروس المشهورة بحرب 1293هـ. ولدت في مدينة أرضروم وتوفيت في 22/5/ 1955 بعد أن عمّرت 98 سنة، ودفنت في مقبرة الشهداء في العزيزية.

(4) من السبّاقين في حرب التحرير، إذ هو أول من أطلق النار على من كان ببزة عسكرية فرنسية تعرّض لحجاب النساء في 13/10/1919.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>