بيانات المثقفين بين القتال والتعايش


“على أي أساس نقاتل؟”.. لم يكن ذلك عنوانًا لبيان عسكري أو تصريح صادر من الإدارة الأمريكية، إنما هي وثيقة وقّع عليها 60 من المثقفين الأمريكيين ونشرت -حيث أعدّت- على موقع مركز القيم الأمريكية American values، موضحة الحاجة إلى إظهار الجانب الأخلاقي في الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية!.

ولم يكن هذا سوى مدخلٍ لإثارة العديد من القضايا الهامة التي ربما أثيرت من قبل؛ إلا أن تناولها في هذا البيان يعيد طرحها بعد شهور من إعلان الولايات المتحدة حربها المفتوحة ضد -ما أسمته- الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر، ولكونها صادرة من قبل هؤلاء النفر من المثقفين؛ إذ تعرضوا في البيان للحديث عن القيم الأمريكية وتصوراتهم الذاتية لتلك القيم، والسؤال حول أسباب استهداف الولايات المتحدة، كما اقتربوا من مسألة المعتقد الديني والنقاش حول حقيقة وضعهفي المجتمعات بين اعتباره مفتاحًا للحل أو سببًا للمشكلة.

وتناولوا رؤيتهم لمفهوم الحرب العادلة -من وجهة نظرهم- ومبرراتها، والدعوة إلى تبني الموقف الأمريكي النابع من القيم الأمريكية التي وصفها موقعو البيان بأنها عالمية، وبأن مصادرها -من الدستور الأمريكي والتجربة الأمريكية الديمقراطية- ترشحها لتكون التجربة الإنسانية الأنجح في عالمنا.

ولم يكن ذلك البيان -رغم محدودية انتشاره- ليمر دون الاقتراب من مضامينه ودلالاته، سواء بالوقوف على السياق والظروف التي أحاطت به من توقيت ظهوره، أو طريقة نشره، أو النظر في قائمة الموقعين عليه، أو بالانتقال للنقاش والجدال حول القضايا التي أثارها والطريقة التي اعتمدها الموقعون لتبرير وجهات نظرهم.

واتسعت دائرة التعليقات حول حقيقة دور المثقف، ممثلا في مثل هذه البيانات الفكرية، بين الموقف المفهوم للمثقفين في مجتمعاتهم بالنقد والمراجعة وتبني المواقف الرسمية رغم اتصافها بعدم الوضوح أو المنطقية؛ ولذلك جاء أحد تفسيرات ظهور البيان في هذا التوقيت بأنه محاولة للتعامل مع علامات الاستفهام والمعارضة التي ظهرت واستمرت في المجتمع الأمريكي نفسه لحرب ضبابية تبدو دون ملامح واضحة، بينما برّر البعض الآخر -ومنهم الكاتب والمفكر إدوارد سعيد- اقتصار نشر البيان على شبكة الإنترنت بأنه يأتي تجنبًا لانتقادات الأكاديميين والمهتمين المعارضين لهذه الحرب الذين كوّنوا رؤية واضحة لمعارضتهم منذ البداية.

وجاءت ردود أفعال أكثر التئامًا وتماسكا بصدور بيان (نقدي) وقّع عليه عدد من المثقفين الأمريكيين أنفسهم يعارض ما جاء في في موضوع البيان “على أي أساس نقاتل؟”، ويطالب فيه المثقفون الأمريكيون نظراءهم الأوربيين بدعم جبهتهم لمواجهة الانفراد الأمريكي الذي لا يضمن تحقيق قدر كاف من التوازن أو العدالة.

وبهذا جاء بيان عدد من المثقفين الألمان كصدى مميز لهذه الدعوة، حيث أوضحوا في بيان لهم -بالإضافة إلى الرد على كثير من الرؤى والحجج في موضوع البيان “على أي أساس نقاتل؟”- أن استمرار التبعية الأوربية للولايات المتحدة الأمريكية لا يساهم فقط في فقدان التوازن العالمي بل ينمي صعود اليمين المتطرف في الدول الأوربية.

أما رد الفعل الفارق فكان من المنتظر أن يأتي من الصعيد العربي الإسلامي، وهو ما جاء جزئيا -في خطوة بالغة الدلالة- ممثلاً في بيان لعدد من المثقفين السعوديين (حوالي 170 مثقفا، من بينهم حوالي 17 سيدة) ليرد على مضامين البيان الأمريكي تحت عنوانه الدال “على أي أساس نتعايش؟”، متابعا للقضايا المثارة في البيان الأمريكي.

وتكمن أهمية هذا البيان في أمرين متميزين، الأول: كونه صادرا من أرضية الفكر الإسلامي، محاولا الاشتباك مع الواقع العالمي دون انكماش أمام متغيراته القاسية، وهو مع حاجته للتطوير والبلورة -اللذين يوفرهما قدر أكبر من الدراسة والنقاش- يُعد خطوة جيدة متزنة.

أما الأمر الثاني فهو صدوره من السعودية بما يشير إلى تغير في المشهد الثقافي والفكري السعودي الذي ربما عانى كثيرا من سمة الانغلاق بظهور التيارات المتشددة دون غيرها، وهو ما يضيف أهمية للبيان، حيث حقق نوعا من الكشف والإظهار للتيار الفكري المعتدل بالسعودية، وإن لم يحظ هذا البيان بالقدر الكافي من النقاش أو التعليق الذي ربما انحسر أغلبه في جدال (سعودي – سعودي) على صفحات عدد من الجرائد العربية حول مواقف الموقّعين على البيان أو تراجع عدد منهم دون النظر الكافي في القضايا التي أثارها البيان، وكونه والبيان الأمريكي “على أي أساس نقاتل؟” يوسعان من دوائر الحوار التي شهدت -بعد أحداث 11 سبتمبر- نشاطات غير منتظمة على كلتا الجبهتين وبتبادلات محدودة، كما أن البيانات المجمعة تبدو فرصة لاختبار قدرتنا على التنسيق والتفعيل.

ونحن إذ نفتح باب النقاش حول البيانين وأصدائهما إنما ندرك أهمية أن نعي دور هذه المواقف الفكرية المتباينة في كشف الخريطة الفكرية والثقافية على الساحة الأمريكية والعالمية -من جانب- والساحة العربية الإسلامية وتفاعلها من جانب آخر، وذلك بالإسهام في فك شفرات عديدة، بدءا من مفهوم الذات ومرورا بالعلاقة بالآخر والمسألة الدينية ووضع المثقفين وتعاملهم مع مطالب السلطة وتساؤلات المجتمع وغيرها من قضايا يظل النقاش بشأنها سبيلا لفهم عالمنا وصنع فرص أفضل للتأثير بدلا من الاكتفاء بالمشاهدة.

>  إسلام أون لاين.نت

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>