جــاءكــم شهـر القـــرآن


يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان،فمن شهد منكم الشهر فليصمه،ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر،يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}(البقرة :186).

أيها المؤمنون:جاءنا شهر الأمة،جاءنا المطهر،جاءنا شهر الغفران،جاءنا شهر القرآن، جاءنا شهر العتق من النار،جاءنا شهر فيه ليلة خير من ألف شهر،جاءنا شهر البركات والرحمات،فأحمد الله أبلغ الحمد وأسأله المزيد من فضله وإحسانه،فطوبى لمن صام نهاره وقام ليله،وهنيئا لمن رفع الله همته ليطلب الزلفى والدرجات العليا في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

يطل علينا شهر رمضان في كل عام بنفحاته الربانية،ورحماته الدائمة،التي تحيي النفوس بنور الطاعة وصدق الهمة،وتوقظ الضمائر النائمة منسباتها لتستقبل هذا الشهر العظيم بالصوم والإقبال على الله تعالى،تلاوة لكتابه العزيز،والعمل الصالح،شوقا إلى الحسنى وزيادة، قال الباري جل وعلا:” وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى” سورة النازعات 39-40.

يا غاديا في غفلة ورائحــا

إلى متى تستحسن القبائحــا

وكم إلى كم لا تخاف موقف

يستنطق الله به الجوارحـــا

يا عجبا منك وأنت مبصـر

كيف تجنبت الطريق الواضـح

أحاديث الصيام

يقول الحبيب المصطفى  : >كل عمل ابن آدم  يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف،يقول الله عز وجل:إلا الصوم.فإنه لي وأنا أجزي به.يدع شهوته وطعامه من أجلي للصائم فرحتان : فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه.ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك<(1). نستفيد من هذا الحديث الشريف أن عبادة الصوم سر بين العبد وربه أجرها يضاعف إلى سبعمائة ضعف.

وقال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام : “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. يقول الصيام أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه.فيشفعان”(2). إذا فالصوم والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة.

وللصوم فضائل كثيرة أقتصر على بعضها، يشهد لهذا أحاديث كثيرة، يقول الحبيب المصطفى : >من صام يوما في سبيل الله عز وجل زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفا<(حديث متفق عليه).وقوله : >إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد<(رواه ابن ماجه والحاكم وصححه).

إذن فالصوم عبادة بين العبد وربه، صاحبها يضاعف له الجزاء من غير عدد ولا حساب، قال رسول الله : >كل عمل ابن آدم يضاعف،الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف<(رواه مسلم).

وروى الطبراني والبيهقي مرفوعا:”الصيام لله عز وجل لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل”،وروى الطبراني ورواته ثقات مرفوعا: >صوموا تصحوا< وروى الإمام أحمد بإسناد جيد والبيهقي مرفوعا:”الصيام جنة،وحصن حصين من النار”.

مما سبق فللصوم فضائل  لا تعد ولا تحصى،و ما خفي أعظم،فإن من عبد الله تعالى حق العبادة (صادقا ومخلصا وصوابا) أعطاه ما لا عين رأت و لا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر،فضلا عن محو الخطايا والذنوب،وفضلا عن الفوائد النفسية والاجتماعية والصحية التي يحققها الصوم.”إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتيكم خيرا”.

وجاءت أحاديث كثيرة في فضل صيام رمضان،عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله  قال:”من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه،ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”-أخرجه البخاري كتاب الصيام باب صوم رمضان إيمانا واحتسابا-.

وروى أبو هريرة رضي الله عنه كذلك أن رسول الله  قال:”الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان غلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر”-أخرجه الإمام مسلمفي كتاب الطهارة،باب فضل الوضوء-.

وروى أنس بن مالك رضي الله عنه:” دخل رمضان فقال رسول الله :”إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم”.

فكل هذه الأحاديث تبين لنا مكانة هذا الشهر العظيم،وما ينزل فيه الله سبحانه وتعالى من الخيرات والبركات والرحمات، فهو مدرسة عظيمة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.فهذا باب خير قد فتح لك أخي المسلم فبادر بالدخول فيه قبل أن يفوتك فتندم ولات ساعة مندم.

درجات الصوم

يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين – بتصرف وإيجاز – : “اعلم أن الصوم ثلاث درجات:صوم العموم،وصوم الخصوص،وصوم خصوص الخصوص. أما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة،وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الأثام،وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية،وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية… وأما صوم الخصوص وهو صوم الصالحين،فهو كف الجوارح عن الآثام،وتمامه بستة أمور: غض البصر،ـ حفظ اللسان عن الهذيان والكذب، كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه، كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره،وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار، أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلىء جوفه.فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مليء من حلالـ أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقا مضطربا بين الخوف والرجاء،إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين، أو يرد فهو من الممقوتين، وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها.

فقد روي عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون فقال : إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه لطاعته،فسبق قوم ففازوا،وتخلف أقوام فخابوا،فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون،….،وعن الأحنف بن قيس أنه قيل له إنك شيخ كبير وإن الصيام يضعفك، فقال :إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه”.

هذه درجات الصوم ، والله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون،وهو يحب التوابين ويحب المتطهرين، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا التعب،كما جاء ذلك في مجموعة من الأحاديث الصحيحة، و الصوم أمانة في أعناقنا وقد أمرنا أن نؤدي الأمانات إلى أهلها،قال جلت عظمته في سورة النساء:”إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها”،وفي الحديث يقول النبي الأكرم :”إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته “أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق.

حقيقة الصيام

عن أبي هريرة ] أن النبي  قال : >ليس الصيام من الأكل والشرب.إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك، فقل إني صائم إني صائم<(3). وذر أبوهريرة في رواية أخرى : >وإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم<(4) وروى البخاري في صحيحه :”قال رسول الله  : >من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه<(5).

انطلاقا من هذه الأحاديث النبوية الشريفة فإنها تبين لنا المعاني السامية للصيام ومقاصده الحسنة،فالصوم أولا وقبل كل شيء هو صيام العبد عن الذنوب والمعاصي والآثام،الصيام هو الهروب من الشهوات والزلات إلى الطاعات والقربات،الصيام هو إصلاح النفس وتزكيتها وتطهيرها وتنوير القلب وتنقيته من الشوائب والغيار والكدورات.

شهر تلاوة القرآن

يقول ربنا تبارك وتعالى : {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}(البقرة : 184).

لقد جاء تكريم الله عز وجل لهذا الشهر العظيم بسبب نزول القرآن فيه،وقد أنزله الله تعالى في أحد ليالي هذا الشهر التي سماها القرآن بليلة القدر،قال عز وجل،في سورة القدر:{إنا أنزلناه في ليلة القدر}، وقد جاءت أحاديث كثيرة في فضل هذه الليلة المباركة، فهي في العشر الأواخر.

ووردت أحاديث كثيرة في فضل قراءة القرآن منها:

عن سيدنا عمر بن الخطاب ] أن رسول الله  قال: >إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين<(أخرجه البخاري ومسلم).

وعن أبي أمامة ] قال : سمعت رسول الله  يقول : >اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه<(أخرجه مسلم).

وعن النواس بن سمعان ] قا ل: سمعت رسول الله  يقول : >يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما<(أخرجه مسلم).

فقراءة القرآن ترفع للعبد درجات وتحط عنه سيئات، وتجعله في حصن حصين،و لا ننسى كذلك الاستماع للقرآن فهو نور ، كما جاء في الحديث،في فضل من يستمع لآيات القرآن عن أبي هريرة ] أنرسول الله  قال : “من استمع إلى آية من كتاب الله تعالى كتب له حسنة مضاعفة ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة” -رواه الإمام أحمد ح8138.

هكذا كان رسول الله ، يقرأ القرآن ويكثر من تلاوته في هذا الشهر المعظم،ويقول النبي  وهو يدفن عبد الله ذي البجادين:”اللهم ارحمه فإنه كان قارئا للقرآن” .واقتدى به الصحابة رضوان الله عليهم،” واقتداء بالنبي  كان الصحابة والسلف الصالح يفرون في رمضان من كل شيء إلى القرآن، وتنافسوا في ذلك، فكان قتادة يدرس القرآن في رمضان في المسجد ويختمه كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان اجتهد في التدريس، وختم القرآن كل ثلاث ليال مرة، وكان الأسود يختمه في كل ليلتين، وأما الإمام مالك بن أنس وهو محدث المدينة، فكان إذا أقبل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على قراءة القرآن من المصحف”لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي.

د. رشيد كهوس

——-

(ü) طالب باحثبكلية الآداب بوجدة.

(üü) الصوم : لغة الأمساك، وشرعاً الإمساك عن شهوتي البطن والفرج بنية التعبد من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

1- رواه الإمام مسلم في الجامع الصحيح،كتاب الصوم،باب فضل الصيام.والإمام البخاري في كتاب الصوم،باب فضل الصوم حديث رقم1894.

2- أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/174.

3- رواه البيهقي في سننه الكبرى،كتاب الصيام،باب الصائم ينزه عن اللغط والمشاتمة.4/270.

4- رواه البخاري في كتاب الصيام، باب هل يقول:إني صائم إذا شتم.ح1904.

5- رواه الإمام البخاري كتاب الصيام،باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم.ح1903.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>