التكليف الدّعوي بعد البناء الخلقي من خلال أوائل سورة المدثر


نقف عند الآيات الأولى من سورة المدثر بقليل من التحليل والتفصيل، يقتضي صياغتها إلى النقط التالية :

أـ تكليف الرسول  بأعباء الدعوة {قُمْ فأنذِر وربَّك فكبِّر}.

ب- ما يلزم ذلك من مواصفات للقيام بمهمة التبليغ {وثيابَك فطهِّرْ والرِّجْزَ فاهْجُر ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر}.

جـ- وما يلزم من الصبر لتحمُّل التبعات {ولِرَبِّك فاصْبِرْ}.

وقبل أن نتناول النقط السابقة بشيء من التوضيح نعرِّج أولا على شرح كلمات الآية :

التفسير اللغوي

المدثر : المغَطَّى بثيابه. دَثَرَ : لبس الدِّثار، وهو الثوب الذي فوق الشِّعار، والشِّعار : الثوب الذي يلي الجسد.

أَنْذِِرْ : أي خوِّف أهلَ مكة وحذّرهم عذاب الله إن لم يسلموا.

وربك فكبر : أي عظيم سيدك ومالِكَكَ ومُصْلح أمرك لأنه لا أحد معَه أو فوقه يستحق التكبير والتعظيم..

وثيابك فطهِّر : أي طهِّر قلبك ومظهرك، فالثياب تدل على عدة معان لا تجرج عن الدلالة على القلب أو باطن الإنسان أو على مظهره من لباس وسلوك، فيكون المعنى : طهِّرْ مخبرك ومظهرك.

والرجز فاهجر : ابتعد عن الأوثان والأصنام، وعن كل ما يوجب العذاب والسُّخط أو المعصية، وعليه يكون المعنى اهْجُرْ كل ما يوجب العذاب والسخط والمعصية.

ولا تمنن تستكثر : لا تعط عطاء لتُعْطَى أكثر منه، ولا تمنن على الله بجدك تستكثر أعمالك، ويقع لك بها إعجاب، ولا تضعُفْ وتقطع أعمالك.

ولربك فاصبر : ولربك فاصبر على أداء فرائضه وعبادته، واصبر على  البلوى لأن الله تعالى يمتحن أولياءه وأصفياءه، واصبر على أوامره ونواهيه، واصبر على تكاليف النبوة والدّعوة فإنها عظيمة..

تأملات في الآيات

ينبه الحق سبحانه رسوله المصطفى بهذا النداء العلوي إلى ما سيلقى إليه لأن الأمر جد خطير ولذا وظف أسلوب النداء الذي يوقظ مشاعر المخاطب ليتنبه بتركيز إلى جسامة اللحظة، وصعوبة المهمة {يا أيها المدثر} ومعلوم أن المخاطب هنا هو الرسول ، لكن الحق سبحانه لم يسمِّه باسمه الشخصيِّ (يا محمد) ولا باسم الوظيفة التي انتدبه إليها (يا أيها النبيء) أو الرسول، ولكن سماه بصفة اللَّحْظة التي هو فيها “يا أيها المدثر بثيابه عند نومه” ويرى القرطبي رحمه الله في هذا النداء ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله، وعبَّر عنه بصفته، ولم يقل يا محمدُ، ويا فلان ليستشعر اللينَ والملاطفة من ربِّه.

أ- الأمـر للرسـول بالقيام بتكاليف الدعوة :

تلا النداء فعل أمر “قم” وهو خطاب قوي في صيغته، قوي في بنيته بالحرف المؤسس لمعناه (القاف وهو حرف مجهور) وكأنه سبحانه بذلك يقول لرسوله المصطفى للقيام بهذه المهمة النبيلة الصعبة : إن اللحظة ليستْ بلحظة لبس الثياب، ولا لحظة تدثُّر وارتخاء ونَوْمٍ… ولذلك أُرْدِف بفعل أمرٍ آخر يحدد فيه المسؤولية بالضبط (فأنذر).

وكأن الحق سبحانه هنا ينبه عباده القائمين على أمر دعوته، وتبليغ دينه إلى كل الناس في كل زمان ومكان، ينبِّهُهم إلى أنه لا مجال للضُّعف والوهن عندما تسُوء أحوالُ الانسانية.

ولا يمكن أن يسمع هذا النداء العلويّ {يا أيها المدثر} ويفهم فحْوَاه، ويعمل بمقتضاه {فأنذر} إلا من قويَ إيمانُه، وغيَّر وِجْهة تلقِّي الأوامر، وطلب الجزاء من الأرض إلى السماء.

إنه ارتباط بالإله الأعظم، خالق الكوْن ومدبِّر شؤونه، ولذلك كان الأمر بالتخويف قبل الأمر بالتبشير للإشعار بأن المنذِرَ رسولٌ من عند رب عظيم لا يخشى قوة أحَدٍ، لأن كل القوى في قبضته، وللإشعار بأن المصير كالح لمن لا يستجيب، ومشرق منعم لمن يستجيب.

ثم أتبعَ الله عز وجل الأمر بالإنذار، بالأمر للرسول  بتكبير الله تعالى، للإشعار بأن غاية الدّعوة وأساس الدين والتدين هو تكبير الله عز وجل في العبادة والحياة والسلوك والتعامل {وربك فكبر}.

وإذا كانت الدعوةُ أساسُها تكبيرُ الله عز وجل وتعظيمُه، فإن القيام لها لا ينبغي أن يصاحبه تهاون أو تباطؤ أو تراخٍ، وللجِدِّ المطلوب من الدّاعية نجد أن الرسول  قام بالدّعوة ولم يقعد، وطلق عهد الراحة والنوم في كل مراحل الدّعوة تنفيذاً لأمر القيام.

ب- الأوصاف اللازمة للداعية :

إنها تتلخص في نظافة الظاهر والباطن {وثيابك فطهِّر والرجز فاهجر} أي طهِّر قلبك من كل الأمراض الباطنية التي تعتري كل الناس العاديّين، من تنافس وتقاتل وتهارش على الأطماع الدنيوية، وتحاسد وتحاقد عليها فأنت ستدعو الإنسان إلى السمو بنفسه، والارتفاع بمشاعره إلى الآفاق العليا. آفاق الخلود في نعيم الآخرة ودرجاتها العالية.

وبما أن الأمر يقتضي إصلاح ما فسد من طباع الناس، ومن ثم فساد الحياة العامة، فإن أداة الإصلاح ينبغي أن تكون أنظف وأشرف مما يُراد إصلاحُه، فالفاسدُ المفسدُ هو الانسان بطبعه وتصوره، وسلوكه، والمصلح (الأداة) إنسان أيضا من نفس الطينة ماديا، ولكن ينبغي أن يكون غير ذلك معنويا : إنسانا طاهرا، يحمل رؤية طاهرةً بجميع مكوناتها المادية والمعنوية، فلا يمكن للناجس أن يطهِّر، ولا للمريض أن يعالج مريضًا آخر في الوقت الذي يحتاج فيه هو نفسه إلى علاج.

جـ- الصبر ضروري لتحمّل التبعات :

إن الأمر يقتضي الصدق في العمل، والتفاني في أداء المهمة دون استثقال الأمر، ولا انتظار جزاء ماديّ قريب مقابل ما يبذل من مجهود، ولذا جاء قوله تعالى : {ولا تمنن تستكثر} أي “فلا تمنن على  ربك فتستكثرْ عملك الصالح، فإنها بجانب ما أنعم  به عليك قليلٌ.

إن العطاء في هذا المجال ينبغي أن لا يتقيَّد بمقابل، أو يُمْتَنّ به (على الغير) لأن أجره عند الله عظيم، وعاقبته في الدنيا والآخرة عظيمة.

ومن اصطفاه الله من بني آدم لهذه المهمة، أو اختارها تطوعا منه بتوفيق من الله، فإنه لا يستطيع ـ مع ذلك ـ أن يتخلص من طبعه الإنساني، فيتحمَّل المشاق بسهولة، إلا أن يكون محتسبا لله تعالى : وكذا جاء قوله : {ولربك فاصبر} ومهما كانت الأسباب الموجبة للصبر ومجالاته، فإن المسؤولية عظيمة، والدرب شاق فلا يتحمل هذه المسؤولية {فأنذر} أو نصيبا منها، ولا يختار السير في دربها إلا الذين لا يستكثرون أيّا كان نوعُ الاستكثار، ولا يمننون أيّا كان نوع المن بل يعملون لله، دون أن يستثقلوا حَمْل المسؤولية {ولربك فاصبر} لأن الانسان الذي يراد إصلاحه عنيد جبار نَكَّار لنعم خالقه عليه.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>