ضوابط ثلاثية لخطاب الداعية


تعتبر الدعوة إلى الله من أهم التكليفات السماوية التي جاء بها كل نبي مرسل إلى قومه، ونظرا لأهميتها فقد وضع لها المولى عز وجل ضوابط تتحكم في أسلوب كل داعية، ولا يكون الداعية كذلك إلا إذا أتقن هذه الثلاثية, وكان من البارعين فيها، وقد جمعها سبحانه في آخر سورة النحل في قوله {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(النمل : 125).

فما هي ضوابط أسلوب الخطاب الدعوي، وما هي مميزاته؟

ضابط الحكمة

إن من يقرأ كتب التفاسير ويستقرئ آيات الحكمة في القرآن العظيم، سيستنبط أن المفسرين قد فسروا الحكمة بتفاسير عدة، حسب سياقها، وأبرز هذه التفاسير : أن الحكمة هي العقل والفهم وحسن التعبير؛ يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى : {ولقد آتينا لقمان الحكمة} أي الفهم والعلم والتعبير”(1)، ويقول أيضا في تفسير قوله تعالى : {يؤتي الحكمة من يشاء} بعد ما ذكر قول المفسرين كمجاهد وغيره “والصحيح أن الحكمة كما قال الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها”(2)، ومن هنا نقول : ينبغي لأسلوب الداعية أن يمتاز بالاحتكام إلى العقل وإلى الاستدلال المنطقي حتى يكون أشد تأثيرا في المخاطب، قال تعالى : {قال ابراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فآت بها من المغرب فبُهِتَ الذي كفر}(البقرة : 257)، وقال تعالى : {قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون}(الأنبياء : 63)..

ضابط الموعظة الحسنة

ومن أساليب الخطاب الدعوي أيضا الخطاب الوعظي، الذي يكون غالبيته مزج بين الترغيب والترهيب، ويمتاز هذا النوع من الخطاب بالأسلوب البليغ الذي يتصف بالواقعية، ويعتمد على معرفة الظواهر الاجتماعية التي تظهر في المجتمع، ومعرفة مقاصدها وما تؤول إليه، ومن ثم التحذير من استمراريتها والوقوع فيها، قال تعالى : {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا}(النساء : 65) وقـــال أيضا : {فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا}(النساء : 62)، ويقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى : {والموعظة الحسنة} أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس يذكرهم بها، ليحذروا بأس الله تعالى(3).

ضابط الجدال بالتي هي أحسن

ومن خاصيات هذا النوع من الدعوة، أن يمتاز الداعية ـ بالاعتماد في أقواله ـ على الحجج والبراهين العقلية، وأن يأخذ مجادله باللين والطرق الحسنى التي يراها تصل به إلى الهدف الاسمى دون الرجوع إلى الأدلة النقلية، إلا إذا تم اقتناع مجادَله، قصد المقارنة، { ويزداد الذين آمنوا إيمانا}(المدثر : 31)؛ قال تعالى : {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}(طه : 43)، ويقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى : {وجادلهم بالتي هي أحسن} “أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن، برفق ولين وحسن خطاب”(4)؛ وقال تعالى {وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون}(الحج : 66)، وهذه إشارة إلى مقارنة المعقول بالمنقول.

وإذا تدبر القارئ هذه الثلاثية الدعوية يرى أن المولى عز وجل قد جعل من وسائل الداعية، الاعتماد على البرهنة العقلية قبل مقارنتها بالنقل، مع التحلي بالأخلاق الحسنة، كلين الجانب، والحسن في القول، والفعل، وخاصة في الضابط الثاني والثالث، ليكون أكثر تأثيرا في مخاطبه، بأقواله وأفعاله، ليكسب هذا الأخير ثقة الداعية ومودته، مما يدفع به ـ أي المخاطب ـ إلى الجرأة على الاعتراف بانهزاميته واقتناعه بوحدانية الله، وفضله سبحانه وتعالى عليه، ومن ثم الخضوع له وعبادته بحق وصدق، فهو سبحانه أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.

……………….

1   تفسير ابن كثير، تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي. ط 2002، ج 5 ص 104

2- المصدر السابق ج   ص 634

3-  ابن كثير/ج  ص 78

4-  ابن كثير/ ص 78

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>