مفاهيم إسلامية: مفهوم الأمة، لماذا لا نستفيد منه؟


جاء الإسلام -وهو خاتم الرسالات – إلى البشرية كلها؛ أسودها وأبيضها، عربها وعجمها، ودخلت في دائرته شعوب وحضارات متعددة مختلفة، اندمجت في تصوراته وثقافته؛ ذلك لأن تشريعاته موافقة للفطرة، يألفها الناس ويتقبلونها دون مشقة أو تكلف، ومن المفاهيم التي أكد عليها القرآن في موضوع تجمع البشر كوحدة تصلح عليها حالهم، مفهوم: الأمة وهو مصطلح يرجع أساسه إلى الدين والعمل الصالح، أو هو : ما يبلغ إليه الاعتقاد الإسلامي حيثما كان؛ فهو لا يحدد بمكان ولا بنسب ولا قبيلة ولا موطن(1). والأمة لا تكون بأن يعيش أفراد على رقعة أرض واحدة، ولا التكلم بلغة واحدة، بل أن يلتقي أفرادها على هدف واحد، فالاجتماع يقتضي نصاً من خارج، يتساوى الجميع في ظله، فيوحِّد ويضبط ويشرع، وتنفسح آفاقه فوق روابط الدم والجغرافية والاقتصاد(2).

إن أي تجمع على غير هذه الأسس سيفترقالناس عليه؛ لأنه سيبنى على العصبيات والمصالح الضيقة. والحقيقة أن مفهوم الأمة في الإسلام مرحلة جديدة في الاجتماع البشري.

لم يهدم الإسلام الروابط الطبيعية بين البشر، ولكنه تجاوزها ووسع معناها وأحكم الربط فيما بينها؛ فوحدة الأسرة، ووحدة القبيلة والوطن، كلها اعتبرها الإسلام، وجاءت أحكامه مهتمة بالأسرة، وجعل من القبيلة رابطة رحم ونسب وليست عصبية جاهلية، وجاءت الوصية برعاية حقوق الجار كرابطة وطنية، وكان رسول الله  يحن إلى موطنه الأول: مكة، كما أحب موطنه الثاني: المدينة.

ولكن هذه الروابط ليست غاية، بل هي مؤدية وخادمة للرابطة الكبرى (الأمة) وإذا كانت هذه الروابط تعارض مفهوم الأمة، أو تعود عليه بالانخرام والانحلال، فلا شك أن رابطة الأمة تنسخ هذه الروابط الجزئية.

مصطلح الأمة في القرآن الكريم

ذكر هذا المصطلح في القرآن على عدة أوجه، منها:

1 – بمعنى: الرجل الجامع للخير، الذي يُقتدى به : {إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}(النحل: 120).

2 – بمعنى: الدين والملة : {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}(الأنبياء: 92) . وقوله تعالى: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}(الزخرف: 22).

3 – بمعنى: القوم، كقوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}(القصص: 23).

4 – أهل الإسلام خاصة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(آل عمران: 110)، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}(البقرة: 143).

5 – بمعنى: الزمن أو السنين: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ}(هود: 8) وقوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}(يوسف: 45)(3).

وإذا أخذنا مصطلح : “أهل الإسلام” فسوف نجد أننا أمام أمة (من دون الناس) لها خصائصها ورسالتها. والمهاجرون والأنصار الذين ذُكروا في صحيفة المدينة كأمة من دونالناس، أصبحوا جزءاً من الأمة الإسلامية، أمة التعارف، بما تضم من شعوب وقبائل، والوطن الإسلامي الأول الذي تكوَّن في المدينة إنما استمد حقيقته من كيان الأمة التي أسسها محمد صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة بالتوحيد والأخلاق والهجرة والمؤاخاة. وليست الأمة هي التي استمدت حقيقتها من الوطن وحدوده الترابية. لقد أعطى الإسلام للعرب بهذا المفهوم بُعداً عالمياً بعد أن كانت العصبية القبلية هي التي تحركهم.

بعض خصائص هذه الأمة

1 – إذا كانت الأمم الأخرى تجتمع على أسس قومية : عرقية، أو جغرافية أو اقتصادية؛ فإن جامعة المسلمين أسمى من هذه الأمور، والذي يجمعها هو الدين، وهنا يتساوى الناس كلهم، لا تعصب للألوان والأشكال والأعراق. وهذه الأمة موحدة ولو فرقتهم التقسيمات السياسية وأصبحوا دولاً شتى.

2 – وهي أمة مجتباة، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أخرجها: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(آل عمران: 110). وقال تعالى : {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ}(الحج: 78).

3 – وهي أمة وسط، والوسط هنا هو الخيار والأفضل، لما تميزت به شريعتها وإنما جعل الخيار وسطاً؛ لأن الأطراف ربما يتسارع إليها الخلل، أما الأوساط فهي محمية محوطة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً فضل الأمة الإسلامية وميزتها في تعليقه على حديث “إنه كان في الأمم قبلكم مَحدَّثون”(4)؛ فإن يكن في هذه الأمة فعمر بن الخطاب : “جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا، وعلق وجودهم في هذه الأمة بـ (إن) الشرطية، مع أنها أفضل الأمم، لاحتياج الأمم قبلنا إليهم (الـمُـحدَّثون) واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته، فلم يحوج الله الأمة بعده إلى مُحدّث ولا ملهم ولا صاحب كشف ولا منام”(5).

4 – وهي أمة تحمل رسالة للناس، وليس كلهمها العيش والتمتع بلذائذ الحياة الدنيا؛ فقد ذم الله اليهود لرضاهم بأي حياة {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}(البقرة : 96). ومما يعين الأمة الإسلامية على التشرف بحمل هذه الرسالة، ما تتصف به من اتزان وإنصاف وعدل بين الناس، علمها إياه القرآن وسيرة النبي  وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم.

5 – إذا كانت الأمم الأخرى بحاجة لوقت طويل حتى تمتزج عناصرها، وتأتلف قواها، ويعيش أهلها تحت سماء واحدة، ويخضعوا لتأثير بيئة واحدة، وينقادوا لنظام واحد، فإن الأمة الإسلامية نشأت مرة واحدة، ولم تأخذ وقتاً طويلاً لينصهر أفرادها في بوتقة واحدة. يقول المؤرخ (روزنثال) : “إن نمو المدنية الإسلامية من أروع الأحداث في تاريخ الفكر الإنساني، وسيبقى مثار أعظم الإعجاب، ولعلها كانت معجزة من حيث حدوثها بسرعة عجيبة لدرجة أنها كملت بعد بدئها بوقت قصير…”(6).

الأمة والمؤسسات

إنتركيز القرآن الكريم على مصطلح الأمة، يبين ما لها من أهمية، وأنها هي الأصل؛ فالمؤسسة السياسية قد تتعرض لهزات وتجزُّؤ كما تعرضت له الخلافة العباسية في بغداد، وقد تزول الدولة ولكن الأمة تبقى تاريخياً كإطار عام يجمع المسلمين في شتى أوطانهم، فقد بقيت الأمة من خلال المؤسسات الوسطى (بين الفرد والدولة)، هذه المؤسسات التي تتجاوز الدولة (المتغيرة دائماً) مثل مؤسسة التعليم والتضامن الأسري والمسجد والثروة. وقد كان من اهتمامات ابن تيمية وابن خلدون البحث عن السبل التي تحرر المؤسسات الوسطى من هيمنة الدولة، لم يكن ابن تيمية يتطلع إلى صلاح الدين يعود ثانية، فراح يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي الداخلي؛ لأن تدخُّل الدولة في المؤسسات جعلت النفس الإنسانية تكسل عن اكتساب الفضائل، يقول الشيخ رشيد رضا مشجعاً أن يكون أمر التعليم بيد مؤسسات: “إن أمر التربية لا يجوز أن يُترك إلى الأفراد ولا إلى الحكومات، لأن المدارس للأفراد دكاكين لكسب المال، وللحكومات معامل لسبك العمال”(7). فالمدارس تخدم أحياناً نعرات وعصبيات محلية إقليمية أو مذاهب رأسمالية أو اشتراكية، ويمكن للأمة أن تقوم بمدارس تخدم المشروع الحضاري الإسلامي.

إن العلماء – ولهم دورهم الكبير- ما تزال الأمة تنظر إليهم باحترام، وما يزال المسلم يتوجه إلى العالِم يسأله عن شؤون حياته، وهل هذا شرعي أو غير شرعي، حلال أم حرام؟ الدولة أو الحكومة هي تنظيم إداري للمجتمع، والقاعدة الأساسية هي الأمة؛ لأن الفرد أمام الدولة قد يكون ضعيفاً متخوفاً ومؤسسات الأمة من جمعيات ومنظمات توفق بين الفرد والعمل العام، وخاصة أن الدولة الحديثة قد توغلت على الفرد فأصبح إما منساقاً دون أن يشعر بالوسائل الإعلامية القوية التي تسيره حيث أرادت، وإما منسحقاً تحت ضغط العيش اليومي والخوف الأمني. إن كثرة الجمعيات والمؤسسات ومراكز البحوث العلمية والدعوية مما يضطر المؤسسة السياسية لأن تعترف بحجمها، بل إلى تقليص دورها. والتجمعات إذا كان هدفها التعاون على الخير؛ فهذا مما يؤيده الإسلام ويشجعه كما جاء في الحديث: “خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم”. وكما جاء في حديث: “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قال أحد الصحابة: يا رسول الله! أنصره مظلوماً؛ فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه، وروى مسلم عن جابر قال : “أمرنا رسول الله  بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القَسَم، وإجابة الدعوة، ونصر المظلوم، وإفشاء السلام…؛ أليس هذا من تضامن الأمة وتعاونها على الخير؟

إن عدم الاهتمام بمفهوم (الأمة) وعدم إيجاد اللحمة والتجانس بين أفرادها جعلها تعيش في فقر اجتماعي؛ فالمثقف والأمي، والغني والفقير، والكبير والصغير، لا يوجد اتصال قوي فيما بينهم.وكأن كل فرد أو أسرة جزيرة منفصلة عن الأخرى، وكأن الفرد ليس مواطناً في أمة ودولة، بل مقيماً على أرض هو وأفراد آخرون، والقوة والتغيير إلى الأفضل إنما يأتيان من الجهود المتصاعدة ومن خلال سائر طبقات ومؤسسات المجتمع.

——————-

(1) محمد الطاهر بـن عاشور: أصول النظام الاجتماعي فــي الإســــلام 208.

(2) رضوان السيد: مفاهيم الجماعات في الإسلام/ 14 ط 1، بيروت 1984م والنص من خارج: هو القرآن والسنة.

(3) انظر: يحيى بن سلام، التصاريف، ط تونس 1979م.

(4) المُحدَّث: هو الذي يُحدَّث في سره وقلبه بـالشيء فيكون كما يُحدث به.

(5) ابن القيم: مدارج السالكين 1/ 39.

(6) علم التاريخ عند المسلمين/ 45 بيروت مؤسسة الرسالة 1983م.

(7) مجلة المنار، م 17/ 8 ويقصد بالعمال: الموظفين.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>