القرآن الكريم بين  التمسك والتبرك


لقد فضل الله هذه الأمة على سائر الأمم، هداها إلى الطريق المستقيم وبعث فيها أفضل الأنبياء، وأنزل عليه أفضل الكتب؛ كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، يلجأ إليه المسلم كل حين كما يلجأ أيضا إلى سنة نبيه التي ماهي إلا وحي يوحى، فيشعر بالطمأنينة، تغمره السكينة وينشرح صدره، وتغمر السعادة كيانه… فهل للخلائق ملجأ يأوون إليه -إذا لفحهم حر الدنيا- أفضل من كتاب الله تعالى؟!

وإذا كان كتاب الله تعالى هو أساس السعادة لكل مومن ومصدرها، فما عليه سوى توليته بالحفظ، كما أوصى بذلك نبي الرحمة المسداة مُعاذَ بَنَ جبل رضوان الله عليه حينما قال : عظنا يا رسول الله موعظة ننتفع بها، فقال عليه  : >إذا أردتم عيش السعداء، وموت الشهداء، والنجاة يوم المحشر، والهدى يوم الضلال، والظل يوم الحرور، فادرسوا القرآن فإنه كلام الرحمن حرز من الشيطان ورجحان في الميزان<أو كما قال .

هكذا تلقى معاذ بن جبل والصحابة هذا التوجيه النبوي بصدور يملؤها نور الإيمان، فعظموه بالحفظ والتدريس، وأولوه بالغ العناية، فكان ذلك الدستور الذي ينظم حياتهم وآخرتهم، ونظرة في حياتهم أيام رسول الله  وبعده تغنينا عما نحن قائلون. فهذا علي ابن أبي طالب أصبح يوما بالمسجد فقال : كانوا -ويعني الصحابة رضوان الله عليهم- يصبحون صُفْرا شعتا غبرا.. كأمثال ركب المعزى، فقد باتوا لله سجدا قياما يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح هملت أعينهم حتى تبل ثيابهم< هكذا سكن القرآن قلوبهم، وخالط وجدانهم.

سأل معاويةُ ابنَ عباس ] عن أبي بكر ] فقال : >كان والله للقرآن تاليا، وعن الميل نائيا!!!< فما الذي صيّر هؤلاء الصحابة من حال إلى حال، من حال الكفر إلى حال الإيمان. والتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصاح لها؟! ما الذي حولهم من العصبية الهتاكة، والجاهلية الفتاكة؟!

إنه القرآن، السبب الممدود إلى السماء واللفتة الربانية إلى العباد، إنه الكتاب الذي ربى جملة الصحابة فأحسن تربيتهم، رباهم على الجهاد والتضحية، حتى أصبحت الدعوة إلى الله أحب إليهم من كل شي، حريصون على دينهم أشد من حرص غيرهم على حياة، تركوا أوطانهم -مع أننا نعلم أن فراق الوطن ليس بالأمر الهين-، آثروا دينهم على دنياهم التي طلقوها الطلاق البائن الذي لا رجعة فيه وقالوا جميعهم على لسان على كرم الله وجهه: >يا دنيا غُري غيري<. يفرون من أوطان إلى أوطان فرارا بدينهم وحرصا عليه من فتنة قوم لا يعلمون، كان همهم الآخرة وكأنهم لها خلقوا، تحملوا الشدائد الصعاب في سبيل إعلاء كلمة الله، نصروا الله ورسوله فنصرهم الله، وفتح عليهم فتحا مبينا. تلقوا أوامره بعزة ورفعة، وأوامر رسول الله  وأحسنوا الأدب مع خالقهم ونبيهم، وهذا أساس المجتمع الفاضل الذي لا تغيب شمس النصر عنه ولو برهة من الزمن.

كل هذا؟؟، نعم كل هذا، والسر في ذلك التمسك بكتاب الله! هذا جيل الصحابة، المثل الضارب بجذوره في عمق التاريخ والحضارة الاسلامية، جيل صنع حضارة عجزت عن صنع مثلها الأمم، إنه التأثير العظيم للقرآن على النفوس، فهو التأثير -كما يقول سيد قطب- الذي يلمس الوجدان ويحرك المشاعر، ويفيض الدموع، يسمعه الذين تهيأوا للإيمان فيسارعون إليه خاشعين، هذه المسحة الربانية العظيمة هي التي صنعت صحابة أجلاء مثل : عمر بن الخطاب، وأبو بكر، وعلي وعثمان، وأبو عبيدة بن الجراح. الذين قال فيهم تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود..} أشداء على عدوهم، رحماء بينهم، يسقون من معين واحد، كل يغرف منه على قدر ظمئه، وكان تأثير القرآن عليهم أشد {إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان يبكون} وإذا تلي عليهم ثانيا وثالثا تدبروه تدبراً عظيما {فيخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}.

جيل رضي الله عنهم ورضوا عنه، ومن بعدهم من سار على هديهم، تمسكوا بحبل الله أيما تمسك، ودافعوا عن حوزة الدين، ولم يخافوا في الله لومة لائم، فماذا يا ترى حصل؟

تقدم الزمن قليلا فجاءت أساطين العالم الإسلامي تستغيث لعلّها تجد على الأرض من يجيب النداء، فيغيثها، وكتاب الله تعالى يشكونا لله صباح مساء قائلا لمولاه الحق : إلهي عبادك ولوني الدبر… وأعرضوا عني بالسحر.. وهجروني أشد هجر.. تقاذفتني ألسنتهم، وأغلقت دوني قلوبهم.. آثروا الشهوات عني… اشتغلوا بمال الدنيا وتركوني…. منهم المتبرك ومنهم من يتمسح.. إلهي : هل إلى خروج من سبيل؟!

من هؤلاء الذين يشكوهم القرآن؟! أيهود هم.. أمسيحيو العالم أم مجوسوه.. أبوذيون هم أم زرادشتيون؟ لا.. والله.. ليسوا هؤلاء ولا هؤلاء، وإنما المشتكى بهم قوم ينتسبون إلى الإسلام يتلونه فلا يكاد يتجاوز حناجرهم، يقرؤون ولا يتدبرون، يرون آياته ولا يبصرون، ويسمعون فلا يعقلون، فإن كان رسول الله  قد وعدنا -يا قوم- أن بكل حرف حسنة فليس معنى ذلك القراءة والقراءة وحدها؛ والتي يقتضي القيام بها ترديد الحروف، وإصدار النغمات، وإنما أعْنى بالقراءة : قراءة تدبر قال تعالى : {أفلا يتَدبّرون القُرْآن أم على قُلُوب أقفالُها}، وقال سبحانه : {كتاب أنْزلناه إليك مبارك ليَدَّبّروا آياته وليتذكّر أولو الألباب}.

فأين عمر ]، من الرعيل الأول، جيل السليقة والحافظة القوية إذ كانت صدورهم كتبهم، أُثِر عنه أنه حفظ “البقرة” في ثمان سنين، فلم يُعْيِه حِفظها، وهو من هو في ضبط الصدر، ولكن الحفظ حفط الصدر والحدود والتمسك بالأوامر والامتثال لها واجتناب النواهي، وتدبر آياتها. وهذا الذي نتكلم عنه هو الركن الأعظم الذي افتقده غالب شباب الأمة أثناء قراءتهم كتاب الله تعالى، فأصبح القرآن بين أيديهم وكأنه كتاب مطالعة لا دستور، أو كتاب تلاوة لا شرائع تحفظ حياة المرء وتصون آخرته، هكذا انقلب التمسك بالقرآن إلى تبرك بصفحاته وتمسح بها. وكأنه صكوك الغفران في الكنائس والبِيَع.. أصبح مهجوراً في أركان الدور، لا يقرأ إلا في المآثم وعند القبور، وكثر ترديده على الألسن وتزيينه بنغم ولحن وغاب التدبر والخشوع.. وهذا، والله، مما لا يليق بكتاب الله تعالى الذي هو الدستور المنظم لحياتنا -نحن المسلمين- من مبتداها إلى منتهاها، من نعومة الأظافر إلى أن يوارى الجسدُ الترابَ.

لهذا مرَضت الأمة بالغثائية وظهر خلق ينتسبون إلى الإسلام، لا يستهان بهم، يتجاوزون خمس سكان المعمور، ومع ذلك لا يجعلون لأنفسهم سرابيل تقيهم الحر يستعينون بأمريكا ويسبحون بحمد “بوش” ويخافون من أرذل خلق الله ولا يخافون الله وهو القاهر فوق عباده.. كل هذا لا يتسغرب من وجوده، إنه الداء الذي استفحل في الأمة بعد أن رفضت التمسك بكتاب الله ورضيت بالتبرك واكتفت بالتمسح، حتى تداعت عليها الأمم، وانقضت عليها، تنهشها الأموال وتبتزها، وتستنفذ الخيرات، وتهتك الأعراض، وتدنس وتعيث في بلاد المسلمين الفساد، فأي أمة نحن الذين أصبح موتنا خيراً من حياتنا مادمنا قد رفضنا تحكيم شرع الله الذي هو عصمة أمرنا.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>