فكر إسلامي: التكافل الاجتماعي بين الشريعة الاسلامية والاقتصاد الاجتماعي 2/2


مقارنة بين التكافل الاجتماعي في الاقتصاد الاجتماعي وفي الشريعة الاسلامية

بعد عرض العناصر الرئيسية لكل من التكافل الاجتماعي في الاسلام، والتكافل أو التكامل الاجتماعي في الاقتصاد الاجتماعي بدا لنا أن إجراء مقارنة بينهما تستدعي حصرها من حيث المصطلح والمرجعية والأهداف وطبيعة المال والشمولية.

- من حيث المصطلح : بتتبع المصطلحات المستعملة أثناء الحديث عن الموضوع يمكن للقارئ أن يلاحظ تلك الفروق في الدلالات بين غالبية المصطلحات المذكورة وإن كانت جميعها تنتمي إلى منظومة مفهومية واحدة مدارها “التضامن والمؤازرة”، لذلك نجد منظومة المصطلح في الشريعة الاسلامية تستخدم كلمات : التكافل، التآزر، التضامن، التعاون، التساند.

ومنظومة المصطلح في الاقتصاد الاجتماعي تستخدم كلمات : التكافل، التعاضدـ التبادل، التدارك…

فمصطلح التعاضد المبني على التبادلية واستهداف شخص الإنسان فقط دون ممتلكاته وأمواله، يختلف عن التكافل المبني على المجانية والتطوعية والذي يستند إلى العقيدة الدينية ومبادئ الأخلاق والقيم الاجتماعية المثلى، ويتدخل في جميع مناحي الحياة، نفس الأمر بالنسبة لمصطلح التعاونيات الذي أساسه الحصول على خدمة أو منفعة بأقل تكلفة، هذه التكلفة المؤداة من المتعاون في شكل حصص مالية تنتفي معها المجانية.

أما بالنسبة لمصطلح الجمعيات الذي لا يهدف في خصائص تعريفه إلى الربح حقيقة فإنه يقترب إلى حد ما في مدلوله إلى التكافل الاجتماعي في الاسلام حينما تكون النية صادقة ومتجهة للعمل الخيري وغير راغبة في تحقيق مصلحة شخصية دنيوية.

وعلى العموم فإن المدلول لكل من المصطلحات المذكورة في الاقتصاد الاجتماعي تختلف اختلافا بينا عن بعضها. والأجدر في ذلك استخدام مصطلح التكامل الاجتماعي بمعنى التدارك الاجتماعي الذي يمكن أن يرقى ويتناسب مع بعض جوانب التكافل الاجتماعي في الاسلام.

وصفوة القول، إن المصطلحات المستعملة في الاقتصاد الاجتماعي جزئية، لا تفي بمضمون التكافل الاجتماعي المطلق والشامل في الاسلام.

- من حيث المرجعية : لقد عولج التكافل الاجتماعي في الشريعة الاسلامية اعتمادا على نصوص دينية إما من القرآن الكريم المنزل على النبي، أو من السنة النبوية الشريفة الصحيحة المروية عنه. وقد أجمع المسلمون في كل زمان ومكان على التعاون والتكافل في حالتي الرخاء والشدة كما حصل في عام الرمادة، وفي زمن سيدنا عمر بن الخطاب]، وتمسكوا بالأخلاق النبيلة المرتبطة بالتآزر والتعاون والتلاحم والتضامن،وجسدوها في اجتهادات فقهية واقعية انطلاقا من شعورهم العميق بالمسؤولية نحو مجتمعهم، وتمسكا بالمعاني العميقة الواردة في مختلف النصوص التشريعية الإسلامية. منها ما جاء في حديث الرسول ، الذي رواه مسلم وأبو داود، أن الرسول  قال : وكان في حال سفر وشدة “من كان معه فضل ظفر فليعد بع على من لا ظفر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له قال سعيد الخدري راوي الحديث فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لاحق لأحد منا في فضل” وقوله : “خير الناس أنفعهم للناس”.

وللتكافل أو التكامل الاجتماعي في الاقتصاد الاجتماعي مرجعية أخرى  وضعية قانونية يعود تاريخها إلى سنة 1844م مع إنشاء أول جمعية تعاونية بانجلترا، أطلق عليها إسم “روتشويل” التي وضعت حينئذ في قانونها الأساسي عدة قواعد للتعاون (1) تبلورت فيما بعد، أثناء إنشاء أول انتدابية للاقتصاد الاجتماعي في فرنسا سنة 1981، إلى  مرتكزات أساسية حددت في ستة مبادئ(2) :

1- التضامن، 2- الاستقلالية 3- الاعتماد على الذات 4- الديموقراطية 5- المسؤولية 6- المشاركة.

- من حيث مفهوم المال والتملك : إن نظرة الشريعة الاسلامية إلى المال والتملك تختلف عن غيرها في الاقتصاد الاجتماعي، فبعد أن أباحت للإنسان أن يملك ما يشاء بالطرق المشروعة التي لا تضر بالآخرين كالزراعة والصناعة والتجارة، فإنها أوجبت فيما يملك حقوقا للغير لأن المال في الاسلام أصلا لله قال تعالى {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} والانسان أمين مستخلف فيه. قال تعالى {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} (الحديد). وكل إنسان عضو في مجتمع ما، إلا وله الحق في هذا المال لأن الحياة المشتركة في المجتمع مبنية على التضامن في المصالح والتعاون في السراء والضراء. وكل عضو محتاج بصفة أو بأخرى إلى الآخرين(3).

فالبعد الانساني حاضر بحدة في تعامل الشريعة الاسلامية مع المال الذي وضعته في الحقيقة بين يدي الانسان الذي استعمره الله في الأرض ليسخره فيما ينفقه أثناء هذا الاعمار ليس إلا. قال تعالى : {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} (هود : 61)، وهذا هو الدافع الذي جعل الشريعة الاسلامية تضع مجموعة من القيود حول تملك هذا المال، تتجلى في سن مبدأ تحديد الأسعار في حالة جشع التجار ومبدأ من أين لك هذا؟ ومبدأ حراسة الرأي العام أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وإذا كانت الشريعة الاسلامية قد أعطت للانسان حرية التملك، وقيدت التعامل معها في حدود شرعية مقياسها الحلال والحرام، فإن الاقتصاد الاجتماعي قد جعل من المال حقا للمساهمين والمنخرطين فقط، دون غيرهم بحيث يمكنهم وحدهم من الاستفادة بجميع الفوائد التي يمكن الحصول عليها في أنشطتهم على نحو مستمر، ولا حق لغيرهم فيها. فملكية المال بهذا المعنى ملكية مطلقة لا يحدد فيها مانح السلطة أو الحق كما هو في الشريعة الاسلامية، بل المنفعة هي المقياس، هذا وأن الانسان في الاقتصاد الاجتماعي يجوز له أن يملك ما يشاء من الحصص والمنافع، وأن يحصل عليها بجميع الطرق مشروعة كانت (حلالا)أو غير مشروعة (حراما) لأن الهدف فيها كما أسلفنا هو تحقيق المنفعة ولو كانت مادية محضة تدمر الانسان وتقصيه في بعده الإنساني.

- من حيث الأهداف : بدءا، يجب التمييز بين التكافل الاجتماعي المبني على  الوازع الديني العقدي، والتكافل المبني على المصالح الشخصية أو المادية، ففي كل منهما يظهر الدافع مختلفا اختلافا بينا.

وبالرجوع إلى الاهداف التي حددها ميثاق الاقتصاد الاجتماعي، الذي أعدته اللجنة الوطنية للربط بين الأنشطة التعاضدية والتعاونية والجمعوية بفرنسا في 02/06/1980، نجد أنها تعرضت للمهام التي يجب القيام بها من طرف المكونات الثلاث والتي ترتكز في عملها أساسا على توظيف القوات والطاقات في البحث عن نقط جديدة من أجل توسيع نشاطاتها ليجد فيه المواطنون والمواطنات، المسؤولون في نفس الوقت، إرضاء أحسن لحاجياتهم التقليدية وليتكيفوا جماعيا مع المتطلبات الجديدة لحياة اقتصادية واجتماعية في غمرة التحولات (4).

من خلال ما ورد في هذا الميثاق، يظهر أن الهدف من الانخراط في إحدى مكونات الاقتصاد الاجتماعي هو تحسين ظروف عيش الانسان (المواطنون والمواطنات) الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق تنمية شاملة مستديمة تخدم الإنسان ومحيطه في بعده المادي والاقتصادي، إلا أن التنمية بهذا المفهوم يعتبرها الاستاذ الدكتور عبد الرحمان طه معارضة لكل تنمية لأنها تستبعد الاعتبارات المعنوية، وبالتالي فالتنمية التي تشخص البعد المعنوي أو الأخلاقي يطلق عليها إسم “التزكية” ومبدأ التزكية في نظره، يوجب الجمع بين تنمية الموارد وتنمية الأخلاق (5).

والواقع أن هذه التزكية بهذا المفهوم لايمكن أن تتحقق إلا في ظل الشريعة الاسلامية التي تتوخى من جميع تشريعاتها ومن ضمنها، التضامن والتكافل، تحقيق مقاصدها الشريفة المتجلية في حفظ النفس والعقل والدين والنسل والمال والتي تمكن الانسان منتزكيته وترقية حياته المادية والمعنوية معا. لذلك نجد الإنسان المسلم يساعد أخاه ويتضامن معه لهدف تطبيق مبدأ “الأخوة” المنصوص عليه في القرآن الكريم بقوله تعالى : {إنما المؤمنون إخوة}(الحجرات : 10). وكذا رغبة في الحصول على أجر الله وثوابه لقول الرسول : “الانسان يجزى بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر” رواه أصحاب السنن .

ونجد في هذا أبلغ وازع لإيجاد الشعور بالمسؤولية نحو المجتمع وتحمل هذه المسؤولية أمام الله، فلا إقصاء للجانب الاجتماعي والأخلاقي على حساب الجانب الاقتصادي.

- من حيث الشمولية : إن مجال تطبيق التضامن التعاضدي والتعاوني، محدد بكل دقة من أول وهلة، ولا يمكن أن يتعداه إلى الغير، لأن التعاضديات أو التعاونيات ليستا جمعيات خيرية ولا جمعيات البر والاحسان ولا تمنحان خدماتهما دون مقابل، وعليه تكون الخدمة في إطار التعاضد معلقة على شرط التبادل.

أما بخصوص الخدمات التي تقدمها الجمعيات بمختلف أشكالها واتجاهاتها، فيمكن أن تحقق نوعا من التكافل بمعناه الشامل في عدة ميادين خصوصا تلك الجمعيات التي تجعل غايتها وهدفها مساعدة الناس، وتخفيف الويلات والمصائب عنهم وإغاثتهم وإزالة كربهم، أو تعليمهم وتثقيفهم أو إنشاء المستشفيات والمستوصفات الطبية لهم أو توفير أسباب الراحة واللهو البريء والرياضة أو تحقيق غايات البر والرحمة بالضعفاء أو الشيوخ أو الأرامل أو المطلقات أو رعاية السجناء.

أما فيما يتعلق بالشريعة الاسلامية فإنها تناولت موضوع التكافل الاجتماعي في جميع أبعاده، وبصفة شمولية بحيث لم تستثن أية فئة من الفئات المستحقة للرعاية أو التكافل ولم تميز فيها بين الوليد والطفل والمرأة والشيخ والفقير والغني كما لم تنتظر من خدماتها أي مقابل.

وبذلك يكون التكافل الاجتماعي في الشريعة الاسلامية يتسع حتى يشمل التعاون في جميع مناحي الحياة، ويمس جميع الفئات التي تحتاج إلى الخدمة الانسانية. وشمولية هذا التكافل يوضحها موقف الاسلام من الغارم(6) والعاقلة (7). هذا الموقف المتضامن يعتبره الدكتور محمد السماحي من خصوصيات التكافل الاجتماعي في الاسلام ولا يتعدى إلى باقي الأنظمة في الاقتصاد الاجتماعي ولا غيره(8).

من خلال ما سبق، نخلص إلى بعض الاستنتاجات التي يمكن إجمالها فيما يلي :

- الشريعة الاسلامية سبقت التشريعات الاقتصادية الوضعية في إقرار مبدأ التكافل الاجتماعي داخل المجتمع، واستندت في ذلك على ضوابط دينية ومبادئ أخلاقية، روحها نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. على خلاف الاقتصاد الاجتماعي الذي اعتمد في معالجة قضايا التكامل الاجتماعي تشريعات وقوانين وآراء قد لا تؤدي أحيانا إلى خدمة الانسان ولا إلى تحقيق مصالحه، بقدر ما تقصيه وتدمره في بعده الأخلاقي والمعنوي.

- إن المصطلحات المستعملة في إطار التكافل الاجتماعي في الشريعة الاسلامية تختلف أحيانا عن تلك التي يستعملها الاقتصاد الاجتماعي وإن كانت ذات مفاهيم متقاربة أحيانا خصوصا حينما تؤخذ مكونات الاقتصاد الاجتماعي بنوع من التكامل.

- يتميز التكافل الاجتماعي في الشريعة الاسلامية بالكمال والشمولية ويظهر ذلك في إدراج الغارم والدية أو العاقلة ضمن الفئات المستحقة للتضامن، وهذا أمر تتفرد به الشريعة الاسلامية ولم يتحقق في الاقتصاد الاجتماعي ولا باقي الأنظمة الاقتصادية الأخرى.

- حددت الشريعة الاسلامية الفئات المستحقة للتكافل بنصوص قرآنية وأحاديث نبوية شريفة أما الاقتصاد الاجتماعي فلم يحدد هذه الفئات بل ترك الأمر اختيارا في  يد الشركاء أو المساهمين أو المنخرطين أو المتطوعين وهذا يفسح المجال لانتقاء المستحق من غيره بناء على أهواء ومصالح شخصية.

- الشريعة الاسلامية تستحضر في موضوع التكافل، الوازع الديني المبني على التضحية والرجاء الأخروي في حين أن الاقتصاد يغفل هذا الجانب.

- اعتبار الشريعة الاسلامية لمبدأ الحلال والحرام في مصدرية الأموال التي تستفيد منها الفئات المحتاجة للتكافل الاجتماعي خلافا للاقتصاد الاجتماعي الذي أعطى الحرية للانسان في أن ينمي أمواله ولو بطرق غير شرعية.

ومهما يكن من اختلاف بين الشريعة الإسلامية والاقتصاد الاجتماعي في معالجة موضوع التكافل….. فإن الانسان يجب أن يظل حاضرا ووفيا للمساهمة في تنمية حياته والارتقاء بها ماديا ومعنويا. والمحافظة على الأمن والسلام داخل مجتمعه، لأن المجتمع الذي يقوم على التعاون ويتحقق بين أفراده التكافل، تسوده المحبة والسلام والهدوء والاطمئنان وعلى العكس من ذلك المجتمع الذي لا يسوده التكافل تنشر فيه روح العداوة والبغضاء والجريمة بأشكالها وألوانها.

“وما أجمل أن يكون الحب في الله جوهر الحياة الاسلامية وأساسها، وأن تكون الرحمة عماد المعاملة الانسانية ودعامتها، وأن يكون العدل ظلا يتفيؤه كل حي ولو كان حيوانا أو حشرة… إن ذلك هو الاسلام… وهو الحياة…”(9).

……………………….

1- الدكتور عبد العزيز الخياط، المجتمع المتكافل في الإسلام ص 233.

2- مجلة التعاون عدد مزدوج 57 و58 مرجع سابق.

3- بلبشير الحسيني. الزكاة والتكافل الاجتماعي في الإسلام. مطبعة المعارف الجديدة. الرباط 1999 ص 19.

4- المناظرة الأولى للتعاون التعاضدي بين بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، العيون، 1988 مداخلة أحمد أيت حدوت، التعاضد والتعاون مجال للتضامن والديموقراطية، منشورات شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط 1989.

5- مجلة المنعطف عدد 20- 2002، الآفاق الخلقية للعولمة كيف يمكن درؤها، طه عبد الرحمان، ص 34.

6- الغارم : من نكب في ماله كمن احترق بيته أو استغرق الدين ماله.

7- العاقلة : هي من عمل العقل، والعقل هو الدية وسميت عقلا لأنها تعقل لسان ولي المقتول، لأنهم يمنعونهم من القاتل، فلا يجدون إليه سبيلا. والاسلام ألزم الورثة المحتملين، العصبة وغيرهم بأن يتضامنوا مع مرتكب الجريمة غيرالعمد في الوفاء بالدية الواجبة للضحية أو ذويه.

8- انظر الدكتور محمد السماحي، مفاهيم تعاضدية، المناظرة الأولى للتعاون التعاضدي ببلدان حوض البحر الابيض المتوسط، مرجع سابق.

8- حسن أيوب، السلوك الاجتماعي في الاسلام، ص 24، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت، 2002.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>