قضايا إسلامية: مذبحة الحرية في العراق


لطالما تشدق ساسة الغرب ونخبه الإعلامية والثقافية -وتبعهم في ذلك المهزومون من بني جلدتنا- بأنهم حماة الحرية ورعاة حقوق الإنسان!! وبأنهم يمثلون في سلوكهم مع بعضهم، ومع غيرهم من الشعوب والأقوام، قيم العدل والمساواة والحفاظ على الكرامة الإنسانية.. ويكاد الكثيرون من أغرار المجتمعات البشرية -بمن في ذلك أغرار المجتمع الإسلامي- أن يصدقوا تلك المقولات، ويقبلوا تلك الدعاوي على أنها من المسلمات !! ويأبى الله -سبحانه- إلا أن يكشف مع مرور الأيام، وتوالي الأعوام، زَيْفَ تلك الأقوال، وبطلانَ هاتيك الدعاوي، وثبوت نقيضها من الأفعال. فحبل الكذب -كما يقال- قصير. والزمن فضاح، وفي الشدائد والملمات، تظهر مطويات النفوس، وعند المحن والبليات، تكشف مكنونات الصدور.. وصدق الشاعر العربي إذ يقول :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تُعْلَم.

وذلك ما حدث للغرب (بالمعنى الإيديولوجي والثقافي للكلمة، لا بالمعنى الجغرافي) اليوم، حيث كشفت الأيام الممارسات الوحشية، التي قام ويقوم بها الأمريكيون -وهم نخبة المجتمع الغربي وصفوته- في العراق وغيرها من بلاد الله الواسعة..

إن تلك الأفعال الشنيعة -والتي هي إلى الحيوانية أقرب منها إلى الإنسانية، بل لا تمت إلى الإنسانية- بمعناها الراقي والحضاري بصلة- ليست أفعالا عرضية، ارتكبها جنود وهم في حالة من عدم الوعي بسبب سكر أو إغماء أو جنون، والجنون -كما هو معلوم- فنون. بل، إنها أفعال جِبِلِّية، وأخلاق متأصلة في “اللاشعور” الإنسان الغربي -إلا البعض وقليل ما هم-، طبع عليها، فصارت جزءا من تكوينه النفسي، وسمة بارزة من سمات تاريخه القديم والحديث على السواء.

وإن نظرة فاحصة على تاريخ هذه الشعوب، لتنبئ عن هذه الحقيقة، فتجعلها ماثلة للأعين المبصرة، حاضرة في البصائر النافذة.

فمنذ اختلاق (أسطورة الصراع مع الآلهة) في جبال الأولمب، وقصة ذلك الانتصار المزيّف، على تلك الآلهة المفتعلة،والذي أورث العقلية الغربية غروراً،…(انظر الإسلام وإيديولوجيات الفكر المعاصر، ص : 108، د. علال الخياري). (ولقد أثرت في لا شعور الأوربيين تلك الأسطورة اليونانية النكرة: أسطورة “برومثيوس” سارق النار… هذه الأسطورة، تصور العلاقة بين الآلهة والبشر، علاقة صراع دائم، وضغينة وأحقاد، علاقة لاترى فيها مشاعر الرحمة أو العطف أو المودة، ولا يهمد أوارها حتى يشتعل من جديد) منهج التربية الإســـلامية لمحمد قطب ص 100.

منذ ذلك الحين وعقدة الصراع مع الاخر، تسيطر على وجدان الإنسان الغربي، وتدفعه إلى اختلاق بؤر صراع، واختراع مواقع صدام مع الآخر، فإن لم يجد خصما يصطرع معه، تصارع مع نفسه، ومع مظاهر الكون التي تحيط به.. لأنه -بكل بساطة- لا يمكنه أن يعيش بدون صراع ! ولقد عبر عن ذلك -صادقا- صمويل هينتنكتون في (نظرية صدام الحضارات) ومثيله فوكوياما في (نهاية التاريخ) وإلا فبماذا تفسر الحروب الصليبية التي شنت على العالم الإسلامي، وقتل في مدينة القدس وحدها سبعون ألفا من المسلمين!! منذ قرون وقرون؟ وبماذا يفسر ما قام به الرجل (الأبيض) من إبادة ماحقة للهنود الحمر في أمريكا (المكتشفة) وهم سكانها الأصليون؟؟ وبماذا يفسر التدمير المهول الذي تعرضت له شعوب كثيرة، على يد الجيوش الاستعمارية، لا لشيء، إلا لأنها ترفض احتلال بلدانها، ونهب خيراتها؟ وبماذا يفسر هدم المساجد على المحتمين بها من الضعفاء الذين لا يجدون حيلة، ولا يهتدون سبيلا؟ وما قصة هدم مسجد القشاوة في الجزائر على من به من المسلمين، وردمهم جميعا بين أنقاضه دفعة واحدة، ثم تحويله إلى كنيسة -كما يحكي شكيب أرسلان في (حاضر العالم الإسلامي)؟ وكذا هدم مساجد (الفلوجة) المنكوبة.. وبماذا يفسر إحراق كل أخضر ويابس في (ليبيا) على يد الجيوش الإيطاليين مزهوين بذلك، وهم يرددون في نشيدهم الحربي: “إن من أعظم الآلام لشاب في العشرين من عمره أن لا يحارب في سبيل وطنه ما دام القتال في طرابلس، والراية المثلثة الألوان والموسيقى الحربية تنبهان النفس المقدامة. يا أماه أتمي صلاتك ولا تبكي، بل اضحكي وتأملي، ألا تعلمين أن إيطالية تدعوني وأنا ذاهب إلى (طرابلس) فرحا مسروراً لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلطان!! سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن! ليس بأهل للمجد من لم يمت إيطاليا حقا…”. انظر (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم) لشكيب أرسلان. 57.

والأمثلة لا تكاد تحصر، لكثرتها وبشاعتها، وليس ذلك خاصا بالعالم الإسلامي -وإن كان الأوفر حظا والأعظم نصيبا من تلك الحروب الطاحنة المدمرة- فهاهي ذي (هيروشيما) و (نكازاكي) المدينتان اليابانيتان، شاهدتان على فظاعة سلوك الرجل (الأبيض) وما أخبار ما حل بالشعب الفيتنامي عنا ببعيدة، إذ ليس بالعهد من قدم. كل ذلك من أجل إشباع نهم مرض الصراع، وغول الكبر والتسلط، الذي يسكن نفس الرجل الغربي!!

قد يقال: إن السبب من وراء ذلك كله أمران :

أحدهما : الجشع المادي، والطمع في خيرات الشعوب المستضعفة، ونحن لا ننكر ذلك، لأن ذلك الفرع من تلك الشجرة، وإلا فلماذا تقتل شعوب، وتدمر حضارات، من أجل نهب الخيرات؟ إنه حب التسلط، ومرض الصراع!

ثانيهما : تمدين تلك الشعوب المستعمرة، ومدها بأدوات الحضارة ووسائل التقدم.. وهذه أكذوبة مكشوفة، كذبها عقلاء القوم قبل غيرهم. يقول العالم الفرنسي كوستاف لوبون: “إن الأوربيين مستعمرون ماهرون بدون نزاع، ولكن -من بعد رومة العظمى- لم يأت متمدنون بالفعل، أقدر من المسلمين، الذين تمكنوا من أن يحملوا أمما كثيرة على دينهم وشريعتهم وصناعاتهم”. انظر (حاضر العالم الإسلامي) 2/186.

ومما يزيدك بصيرة بما ذكر، أنهم لما قهروا الشعوب المستضعفة وتحكموا في رقاب الجائعين في إفريقية وآسية، ولوا وجوههم شطر بعضهم بعضا، فأعلنوها حربا عامة في أوربة على محاور مختلفة، قتل فيها سبعون مليون شخص، لإشباع روح التسلط والصراع. وأخبار النازيين والفاشيست، معلومة مشهورة. وما هم إلا أخلاف لأسلاف، وأسلاف لأخلاف.. فـ “الحية لا تلد إلا الحية، والولد من غير رشدة لغية”.

ولعل قائلا يقول: إن ذاك عهد قد ولى، فأقول: فبماذا نفسر قتل الأطفال بعضهم بعضا في المدارس العمومية الأمريكية، حتى تحول ذلك إلى كابوس مزعج لصناع القرار في (البيت الأبيض) وبماذا نفسر حب الهيمنة الأمريكية على العالم أجمع، ودعواها أنها إله العالم، وربـــــــه الأعلى -خابت وخسرت في دعواها تلك- وهاهي معسكرات الموت في العراق، وأفغانستان، والمذابح الممنهجة في فلسطين على يد عصاباتمدعومة من قبل الرجل (الأبيض)، تصرخ في وجه حماة (الحرية) الكاذبين!! أما قصة أصحاب (كهف) كونتنامو فلا يعلم أسرارها إلا علام الغيوب، ثم القائمون عليها…

أما عن الأفعال الشنيعة الأخرى التي يسمونها غير أخلاقية! فكيف تكون غير أخلاقية، في مجتمعات تسمح فيها حكوماتها الرسمية بالإعلان في التلفزيونات العامة -بله الخاصة- عن الزنا واللواط، بل وممارسة ذلك جهارا نهارا؟ وكيف تكون -عندهم- غير أخلاقية، ودولهم تحمي تلك التصرفات بقوة القانون، أليست أمريكا ومن يدور في فلكها من (الجوقة الأوربية) من يتباكى على متعاطي اللواط -حتى في الدول الإسلامية-؟ أليسوا هم من يتدخل في شؤون الشعوب، ويجدون ويجتهدون في التهديد والوعيد لمن يعيب هذه الممارسات..؟ أليست بريطانيا أول من سن حماية اللواط بقوة القانون..؟ ألم يوافق البرلمان الهولندي قبل مدة من الزمن على حماية اللواط والسحاق بقوة القانون؟ وأقامت وسائل إعلامه الدنيا ولم تقعدها في وجه من انتقدوا ذلك، أو اعترضوا عليه؟.. والقائمة طويلة.

إن تجارة الدعارة بأشكالها المختلفة، المثلية وغير المثلية، بين بني آدم مع بعضهم وبينهم وبين بني الكلاب وغيرها من الحيوانات اكثر ربحا في الغرب من غيرها من التجارب والاستثمارات… وأفلام البورنو خير شاهد على ذلك. فكيف يقال -ويراد منا أن نصدق- إن ما فعله الجنود الأمريكيون لا يمت إلى القيم الغربية بصلة، وأنها أفعال معزولة، لا وألف لا. إنها أفعال جبلية في النفس الغربية يحاولون إخفاءها وراء العبارات الكاذبة، كعبارة الحرية والتحرير، وحقوق الإنسان، وحتى حقوق الحيوان!!.. وغيرها من العبارات. وإن الشعب العراقي المظلوم المقهور، ليؤدي اليوم  ضريبة تصديق الكذب الأمريكي، أو الجهل بالحقيقة الأمريكية، وإنها لضريبة فادحة، كلّفته -ولا تزال- تكلفه كرامة رجاله وعفة نسائه، ولعلها تكونعبرة بليغة لشعوب أخرى، حتى لا تنطلي عليها حيل المحتالين.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>