أخرج البخاري بسنده عن عدي بن حاتم ] قال : بينما أنا عند النبي إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال يا عدي : >هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها. قال : “فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله- قلت فيما بيني وبين نفسي، فأين دُعَّارُ طَيِّءٍ الذين قد سَعَّرُوا البلاد…؟<(كتاب المناقب)
هذا الحديث النبوي الشريف من البشارات والنبوات التي كان يبشربها الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام أصحابه عندما يشتكون إليه سوء الأحوال والأوضاع في الواقع الذي يعيشونه،وفي ذلك ما فيه من فتح باب الأمل للمسلمين حتى يدركوا أن دوام الحال من المحال،وأن الأوضاع وإن بدت سيئة وكثر فيها الظلم والجور والفساد، وعم البلاد الخوف والذعر، فإن بإمكان الأمة إذا هي استمسكت بدين ربها أن يبدل الله جورها عدلا، وفسادها صلاحا، وخوفها أمنا، وهزيمتها نصرا،وذلها عزا..وراوي الحديث هو عدي بن حاتم من قبيلة طيء المشهورة وبلادهم ما بين العراق والحجاز، وكانوا يقطعون الطريق على من مر عليهم بغير جوار، ولذلك تعجب من قول رسول الله : كيف تمر الظعينة (المرأة في الهودج) وهي غير خائفة تقطع مسافة طويلة ما بين الحيرة ومكة حتى تتمكن من الطواف بالبيت لا تخاف إلا الله، ودُعَّارُ طيء، جمع داعر وهو الشاطر الخبيث المفسد،ومعنى : قد سعروا البلاد، أي أوقدوا نار الفتنة وملأوا الأرض شرا وفسادا وهو مستعار من النار وهو توقدها.
والواحد منا وهو يعرض هذا الحديث على واقع المسلمين في أرض العراق وفلسطين وما يحدثه فيها دعار أمريكا ودعار الصهاينة من جز الأعناق، ومنع الأرزاق وقطع السبل، وإهلاك الحرث والنسل..في أرض النبوات ومهد الحضرات، لا يسعه إلا أن يسأل: هل فعلا بإمكان هؤلاء المذعورين المفزوعين أن يبدل الله خوفهم أمنا واستعبادهم حرية…؟
والحقائق التي تبشر النبوءات النبوية، والوعود الربانية كلها تؤكد أن الأمة بإمكانها أن تنهض من كبوتها، وتتحرر من عبوديتها لغير الله، إن هي امتثلت لما يطلب منها، واستجابت لله وللرسول إذا دعاها لما يحييها.
وقد حصل هذا بالفعل للإمة الإسلامية في بداية نشأتها يوم قادها رسول الله نحو العزة والرفعة والسمو بروح تطمئن إلى عدل السماء، ويقين لا يخالطه شك في أن وعد الله حق وصدق الذين هم لربهم يرهبون، وهذه الثقة الكبيرة في الله هي التي أنطقت لسان رسول الله قائلا لعدي في تتمة حديث الانطلاق :>ولئن طالت بك الحياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت كسرى بن هرمز؟ قال كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه.. قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله ، وكنت فيمن افتتح كنز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم ..<.
إن ما بشر به رسول الله أمته لا يعدو أن يكون تأكيدا لما يعد الله عباده المؤمنين والذين أخلصوا دينهم لله حيث يقول عز وجل في سورة النور: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون، لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبيس المصير}(الآيتان:55/56).
فالوعود الثلاثة التي تضمنتها الأيتان هي دعائم أساسية في بناء المجتمع المسلم الآمن وهذه الوعود هي: -الاستخلاف في الأرض-والتمكين لدين الإسلام والعباد-والعيش في أمان بعد الحرب والخوف كما تؤكد أن عبادة الله سبحانه، ورفض الشرك به إنما يكون بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول وأن هذه العبادة هي التي تؤدي إلى الرحمة في الدنيا بالأمن والتمكين في الدنيا وبالدرجات العلى يوم القيامة ثم إن الأرض في الآيتين هي الأرض في عمومها مشارقها ومغاربها الأرض كلها التي هي مأوى رسول الله فقد روى الإمام مسلم بسنده عن ثوبان ] قال: قال رسول الله : >إن الله زَوَى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوِيَّ لي منها؟<.
وروى الحاكم في صحيحه بسنده عن أبي بن كعب قال: لما قدم النبي وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلا في لأمتهم فقالوا : ترون أننا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل : فأنزل الله تعالى لنبيه : {وعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحات إلى قوله:_ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} ولقد كان هذا التمكين في الماضي حتى امتدت الخلافة الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغربها ففتحت بلاد المغرب الأقصى حيث بلاد الأندلس ثم وصلت من ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، ولا يزال ذلك ممكنا اليوم وفي كل يوم من المستقبل لأنها وعود من الله تبارك وتعالى، ولن يخلف الله وعده وثمن ذلك كله هو الإيمان والعمل الصالح كما قال رب العالمين.
إن المقصود من هذه البشائر والوعود هو ألا ينخدع المؤمنون بالكفر وأهله مهما بدا الكفر عاتيا وذا سلطان وقهر، ومهما بدا الكفار أصحاب أموال ومكانة دنيوية بل مهما استطاع الكفار أن ينتصروا على المؤمنين في جولة أو جولات لأن الكفر والكفار غثاء وزبد والإيمان والمؤمنون حق ينفع الناس في دنياهم وآخرتهم وقانون الله وسنته أن الزبد والغثاء إلى زوال، وأن الحق إلى بقاء ورسوخ {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}(الرعد :17).