وقفات: هؤلاء… حمقى ومجانين العالم…


نحمد الله على هذا التفضيل الإلهي الذي خص  به في مطلق ملكوته الانسان , ومن أجَلِّ مظاهره وأعظم مننه العقل السابغ … ونحمد الله على أنه لم يقدر لخلقتنا إلا خلقة سوية وهيئة تامة …فماذا لو شاءنا – عز من فاطر – دجاجا يسرح ثم يذبح أو قططا تتسكع وتتنطع أو حشرات تفني ولا تغني؟  سبحانك سيدنا ومالك أمرنا ومكمل خلقنا. لك الحمد أولا وأخيرا على تمام الخلقة ونعمة العقل .

وهكذا يصبح العقل ومدى رجحانه واكتماله الفاصل بين الرفيع والوضيع والحسن والرديء والحيوان والانسان … وكلما اكتملت نعمة العقل اكتملت في المخلوق قدرات كالتفكير والتمييز والتدبر والتدبير والتأمل، وإذا تعطلت في المرء هذه القدرات لم تغن عنه صورة اللحم والدم، وما قد يمتلك من خصائص زائلة كالقوة والمال والسلطان والجمال . ولربما أصبحت هذه النعم نقما إذا اقترنت بالخفة والطيش . فالمال في يد السفيه يتحول إلى أداة للفساد، والسلطان عند الأحمق يصبح آلة للطغيان، ولَرُبَّ عاقلة ذميمة أفضل من حمقاء جميلة…

وأتذكر فيما أتذكره من مقروءاتي أن شيخ الكتاب “الجاحظ” عقد فصلا في بعض مؤلفاته عن اخبار الحمقى  والمجانين . ولا أحسب الجاحظ كان يخلط هزلا بجد للترويح عن المتلقي فقط – وهومنهج تربوي راق له أهميته في التعلم- بل كان يضع الناس أمام مرايا نفوسهم ليدركوا قدراتهم من خلال الصورة المضحكة ويعرفوا الفوارق بين الخفة والرزانة والتعقل والسفه .

وفي التراث العربي ضرب المثل في الحمق (هبنقه) الذي بلغ به حمقه ألا يعرف نفسه إلا بخرز في عنقه  فلما أصبح يوما وجد الخرز في عنق أخيه … فقال له : ” أنت أنا، فمن أنا؟ ” وفي القرآن الكريم إشارات بليغة الى بعض الحمقى كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد فتله : وكقوم ابراهيم الذين عبدوا آلهة صنعوها … وكآل لوط الذين اتخذوا الرجال شهوة من دون النساء وبلغ من سفههم أن يعترضوا سبيل ضيف نبيهم … وكقارون الذي ناءت خزائنه فطغى، وتمنى الجهلاء مكانه لولا أن أعادهم الى رشدهم ما حاق به من عقاب .

من ويلات الحمق أن الأحمق لا يدرك حمقه بل يرى تصرفه عين العقل . وإلى نوع من هذا القبيل يشير قوله تعالى في سورة الكهف (الآية 103-104) : {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} صدق الله العظيم .

وأن بين التعقل والحمق خيطا رفيعا جدا، فقد يتحول العاقل الى أخرق إذا خالف الضوابط العقلية أو الأعراف الاجتماعية أو المبادئ الأخلاقية . ولم يُسَمَّ العقل عقلا إلا لأن صاحبه يعقل تصرفاته الهوجاء ويربطها  . وقد قرأت -مؤخرا- في صحيفة، أن مغني البوب (مايكل جاكسون) صنف – بعد استطلاع للرأي عن المجانين – في امريكا في الرتبة الأولى بسبب ما عرف عنه من تلاعبات في قضية التحرش الجنسي بالأطفال … بينما صنفت أخته  (جانيت) في المرتبة الثانية بعده لأنها عرت صدرها أثناء الغناء . كما صنف (بوش) في المرتبة العاشرة !! بسبب الضجة المفتعلة حول أسلحة الدمار الشامل التي لم يعثر لها على أثر – ولن يعثر لها على هذا الأثر لأنها أخت العنقاء .

ولو تدبرنا واقعنا لالحقنا بأولئك المجانين طوابير محسوبة على العقلاء ومنهم :

- مغنو ومغنيات (الفيديو كليب)  الذين تعج بهم قنوات الذل والنِّخاسة هؤلاء لا عمل لهم سوى حشد الأجساد وهز الأرداف وتحريض الشباب على الفساد، وصرفهم عن واقع الأمة وتَرَدِّيَاتها، وهم يلحقون بجانيت جاكسون …

- القيمون على سهرات المجون ومهرجانات التفسيق والتمييع وتضبيع الأمة وتضييع شبابها المُصِمُّونَ آذانهم عن أنين الجوعى والثكالى واليتامى في العراق وفلسطين وأفغانستان …

- المنظرون لحقوق الانسان المنادون الى تحرير الشعوب من الرق، غير أنهم يعرون السجناء فتفضحهم الشاشات العالمية و صفحات الجرائد الدولية، ويضعون في أعناق الرجال الأطواق ويجرونهم جر الكلاب ويرقصون فوق ظهور المضطهدين العراة…

- مثقفون من العالم الثالث تشدقوا بالشرعية الدولية وهاجموا الكتاب والسنة والأئمة والرواة والعلماء إلا أن هذه الشرعية خانتهم وغادرت مضاجهم لتصبح ذات صباح عارية فوق أرصفة العالم … اللهم لا شماتة ..

- أقوام نصبوا أنفسهم قضاة وخصوما وجلادين وأدانوا من شاؤوا وأدبوا من شاؤوا ووزعوا صكوك الغفران على من شاؤوا وباركوا من شاؤوا و (فَلَوْا) رؤوس من شاؤوا …

- أقوام أرسلوا شعورهم ومخافة أن تفلى، وعوض أن يحلقوها، انبطحوا عند أقدام حمقى العالم وباعوا قضية الامة ..

- ارهابيون روعوا الدنيا وقتلوا العالمين ووضعوا العالم أمام معادلة البيضة والديك …

- شعراء سدوا عيونهم وصفعوا الهواء يأيديهم وتمايلوا وتولهوا وتأوهوا ونادوا الليل والكأس… وحين فتحوا اعينهم وجدوا الجمهور العاقل قد نام …

- أقوام ادعوا السبق في مجال التمدن والحرية غير أن منديلا يوضع فوق الرأس أرق برلمانهم وهدد جمهوريتهم فتنادوا بالويل والثبور .

- أقوام أسسوا نوادي للعراة – وآخرون دافعواعن الزواج المثلي وفئات قدست العري وهاجمت ريش التقوى .

- منعش سياحي … ادعى أن فندقه سيعرف إفلاسا إذا واصلت مستخدمته وضع غطاء الرأس على شعرها … وحين نزعه بقوة الجنون اكتشف أنها صلعاء .. غير أن الحاضرين العقلاء … جدا صفقوا لصلعها الجميل ارضاء له .

وللقارئ الكريم أن يضيف إلى لائحتي من شاء ممن يراهم خارجين عن ضوابط العقل غير أن حمقى الجاحظ يظلون أعقل ممن وردوا بهذه اللائحة لأنهم لم يلحقوا ضررا بغير أنفسهم … ولعل في حمق (هبنقه) لطفا ربانيا لأن (هبنقة) كان ينسى نفسه ما لم يميزه خرزه بينما حمقى هذه اللائحة يعرفون أنفسهم ويعجبون بأوجههم في المرآة …ثم يدعون أنهم أعقل عقلاء هذا العالم.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>