قضايا دعوية: إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها: 11 – الجهاد والرسالة 2/2


معنى الــــــــرسالـــــة

يتكرر ذكر الرسالة والرسول  في مئات المواضع من سور القرآن، أما في الآية التي حددت الإطار العام لعناصر الأمة المسلمة فقد وردت الإشارة إلى الرسالة عند قوله تعالى :”في سبيل الله”. وتقسم محتويات الرسالة إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي :

ـ الإيمان بالله، ومحوره الإيمان بقدرته وهيمنته وأنه المالك المتصرف بالوجود كله.

وثمرة هذا الإيمان تحرر الإنسان من طغيان الآلهة المدعاة وإطلاق قدراته العقلية والنفسية والجسدية لاستعمالها في تسخير الكون دون عائق من رهبة أو رغبة.

ـ الأمر بالمعروف، ومحوره الدعوة إلى التوافق مع سنن الله وأقداره وقوانينه في الوجود القائم، لأن في هذا التوافق بقاء الإنسان ورقيه.

ـ النهي عن المنكر، ومحوره التحذير من الاصطدام بسنن الله وأقداره وقوانينه في الوجود القائم لأن في هذا الاصطدام تدمير لبقاء الإنسان وسقوطه في الدنيا والآخرة.

وهذه العناصر الثلاثة الرئيسة التي تتكون منها الرسالة متضمنة في قوله تعالى : {كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}( آل عمران : 110).

ولقد شرح الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه هذه الآية فقال : “كنتم خير الناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة، يبذل المسلمون أموالهم في الجهاد لنفع الناس، فهم خير الأمم للخلق، والخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله”(1).

والمعروف الذي تشير إليه الآية، اسم جامع لكل ما ينفع الجنس البشري ويرتقي بسلوكهم والعلاقات المتبادلة بينهم.ولذلك حين سأل رجل الرسول  عن المعروف، أجابه :

>لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقى، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق. وإن سبك رجل بشيء يعلمه فيك وأنت تعلم نحوه فلا تسبه، فيكون أجره لك ووزره عليه، وما سر أذنك أن تسمعه فاعمل به، وما ساء أذنك أن تسمعه فاجتنبه<(رواه أحمد).

ومن الواضح أن التعريف النبوي لــ -المعروف- في الحديث المذكور، لم يتناول المعروف كله، وإنما راعى مستوى السائل، وبيئته، ووجه انتباهه إلى ما يشيع في تلك البيئة.

ولكن البحث الشامل فيما يوجه إليه القرآن والحديث يظهر أن”المعروف” و”المنكر” يشملان شبكة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والشعوب والأمم، وأن كل ما ينفع الإنسان ويورث الانسجام مع سنن الله وقوانينه في الخلق، يندرج في قائمة”المعروف” وما يضر البشر ويصطدم مع هذه السنن والقوانين، يندرج في قائمة “المنكر”

أهـمـيـة الـــرســــالـــــــة

فــــــــي وجـــــــــود الأمة

للرسالة أهمية رئيسة في نشأة الأمم وتكوينها ومصيرها، وتبدو هذه الأهمية في الأمور التالية:

الأمر الأول : تتقرر مكانة الأمة بين الأمم على المستوى العالمي، بمقدار ما تقدمه من عطاء حضاري للآخرين، وهذا العطاء هو الرسالة التي تحملها الأمة بين الأمم الأخرى، وتضع في خدمتها كافة إمكاناتها ومصادرها البشرية والمادية والمعنوية، وهو ما يسميه المؤرخ البريطاني-توينبي Toynbee-”الأناقة الحضارية”.

والأمر الثاني: إن هذا العطاء الحضاري هو الضامن لبقاء الأمم واستمرارها. ذلك أن الأمة التي تتوقف عن العطاء تبدأ بالأخذ، والأخذ الذي لا يرافقه عطاء متبادل سبب من أسباب الذوبان وفناء الأمم. ولكنه فناء بطيء، لا يراه إلا العارفون بقوانين الاجتماع البشري وسنن التاريخ، لأنه يتم على مراحل تستغرق كل مرحلة منها جيلين أو ثلاثة.

ففي المرحلة الأولى: تأخذ: الأمة الأشياء المادية كالمنتجات الصناعية والحربية.

وفي المرحلة الثانية: تأخذ الأمة العادات، كأشكال اللباسوالأثاث وأشكال الطعام.

وفي المرحلة الثالثة: تأخذ الأمة المظاهر الثقافية، كاللغات ونظم الإدارة والنظم الدبلوماسية والعلاقات الاجتماعية والفنون وأشكال الترويح.

وفي المرحلة الرابعة: تأخذ الأمة القيم والمقاييس الاجتماعية والأخلاقية.

وفي المرحلة الخامسة:تأخذ الأمة العقائد، وعند هذه المرحلة تنهار جميع الحواجز، ويبدأ الذوبان الكامل.

والأمم التي تعي قوانين هذا الذوبان تحاول أن تتجنبه من خلال تجديد دورها في العطاء الحضاري، واستئناف العطاء، ليتوفر لها البقاء والتميز في الداخل،والاحترام في الخارج. من ذلك ما لجأت إليه اليابان من خلال تصدير فلسفة زن Zen ، ورياضة الجودو والكاراتيه، وصبغ الصناعة اليابانية بأشكال الفن الياباني، ومن خلال المحافظة على القيم والتقاليد اليابانية، بما فيها خروج الوزراء إلى المعبد الرئيس للبوذية،لتقديم اليمين الدستورية هناك.

والأمر الثالث الذي يمثل أهمية الرسالة في حياة الأمة هو أن الرسالة حاجة نفسية، اجتماعية، والأمم التي تحمل رسالة، تحفظ وحدتها، وتجنب مجتمعها من الانقسام والتفتت والحزبية والطائفية والتصارع من أجل المصالح والعصبيات المحدودة. وتتناوب الظاهرتان بشكل كامل بحيث إن غياب إحداهما يؤدي إلى بروز الثانية، ذلك أن الرسالة توحد أفراد الأمة وجماعاتها حول هدف أسمى، يستهلك طاقاتهم ونشاطاتهم، فتختفي الانقسامات والفتن، أما حين تغيب الرسالة، فإن الناس تتقاسمهم أهداف فردية ومصالح عصبية، وبذلك تبرز الحزبية والعصبيات، وتشيع الفتن، وتتفرق الأمة إلى فئات متنابذة متصارعة. وإلى هذا يشير قوله تعالى : {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم}(التوبة : 39)، ولقد علق ابن تيمية على هذه الآية فقال :

” قد يكون العذاب من عنده، وقد يكون بأيد العباد، فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله، فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة، حتى تقع بينهم الفتنة كما هو في الواقع.فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم وألف بينهم، وجعل بأسهم على عدوهم وعدو الله، وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذبهم بأن يلبسهم شيعا، ويذيق بعضهم بأس بعض”(2).

وفي موضع آخر، يحذر الله من نتائج التخلي عن حمل الرسالة، وتكاليفها في الإنفاق والجهاد فيقول : {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}(البقرة : 195).

ولعل مناسبة الآية تلقي ضوءا ساطعا على الأثر المنيع للرسالة والجهاد في الحفاظ على وحدة الأمة ونجاتها. فحين كان المسلمون على أبواب القسطنطينية، واصطفوا للقتال، حمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل، ثم خرج مقبلا فصاح الناس: سبحان الله ألقى بيديه إلى التهلكة..!!

فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله  فقال :

“أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية غير التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا  لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصريه قلنا بعض لبعض سرا من رسول الله  : إا أموالنا قد ضاعت، فلو أننا قمنا فيها، وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى في كتابه يرد علينا ما هممنا به فقال: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا فنصلحها، فأمر بالغزو”.

فمازال أبو أيوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله عز وجل(3) .

دور التــــــربـيـة فــــــــــي

تـعـزيــــز الـــــــــرســــــالـة

تتحمل التربية الإسلامية مسؤولية كبيرة إزاء بلورة هذه الرسالة، ووسائل حملها، وغرس الولاء لها. وذلك من خلال بلورة مضمون”رسالة العصر”التي يجب على الأمة حملها، إذ لا يكفي لبلورة الرسالة تلك الصيحات الخطابية التي تتوالى في الكتب، والمجلات، والصحف، والندوات، وفوق المنابر: عودوا إلى الإسلام! عودوا إلى الإسلام!. وإنما لا بد من مؤسسات تربوية، ومعاهد فكرية، ومراكز بحوث متخصصة وظيفتها بلورة علوم سياسية وإدارية ونفسية إسلامية يكون على رأسها كيفية إخراج الأمة المسلمة، وصيانتها من الضعف والتفكك، وتطويرها حسب متطلبات العصور والأجيال.

ولابد للتربية الإسلامية أن تعمق في نفوس-المتعلمين-الشعور بالمسؤولية إزاء الرسالة، وأن تسهم في تحديد المهارات الجهادية، ونوع الجهاد اللازم للزمان والمكان.

———-

1- ابن تيمية، الفتاوى، علم السلوك ج 10 ص 59.

2- ابن تيمية، الفتاوى، التفسير ج 15 ص 44- 45.

3- الواحدي، أسباب النزول، ص 37- 38.  السيوطي، لباب النقول، ص 37، نقلا عن الترمذي وأبي داود وابن حبان والحاكم.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>