قبسات من مدرسة النورسي : قرأت لكم: طرق الإرشاد في الفكر والحياة


 

من نافلة القول إن طرق العمل الدعوي الإسلامي تعددت وتنوعت، وتنوع معها الخطاب الدعوي من مركز على التربية إلى آخر مركز على السياسة وثالث على الثقافة… وفي هذه الصفحة سنعيش ـ على مدى حلقات بحول الله ـ مع الأستاذ محمد فتح الله كولن أحد قيادات العمل الاسلامي في تركيا وأحد الناهلين من معين تراث الشيخ بديع الزمان النورسي رحمه الله، وسنطل على التجربة التركية الغنية من خلال كتابه (طرق الإرشاد في الفكر والحياة) الذي يعتبر كتابا في (فقه المعاناة والألم من أجل الدعوة إلى الله) والذي ترجمه إلى العربية ذ. إحسان قاسم الصالحي رئيس مركز رسائل النور بتركيا.

وقد تطرق الأستاذ كولن في الأعداد الماضية إلى مهمة التبليغ التي تقلل الانحرافات في المجتمعات البشرية وتنير دروب الظلام لبناء مجتمع القيم الفاضلة، ولا يتحقق ذلك إلا بقيام الإنسان بمهمته الاستخلافية في الأرض كما تحدث عن الحاجة إلى التبليغ ومكتسباته. ونواصل في هذا العدد هذه الرحلة الممتعة مع الأستاذ كولن في الحلقة الرابعة :الحلقة الرابعة : التبليغ أثمن هدية

إن أردنا أن نعقد تشبيها بين وظيفة التبليغ وتبادل الهدايا بين الناس يمكننا أن نسرد الآتي:

إنكم تتهادون فيما بينكم في المناسبات والأعراس، ولا شك أنكم قبل تقديم الهدية تفكرون مليا لدى اختياركم لها ومدى ملاءمتها للشخص المهدى إليه. وهذا أمر معتاد ومفيد في الوقت نفسه، لأنكم بها تدفعون حاجة وتضمنون محبة. وكذلك الأمر لدى زياراتكم لمن يشاركونكم في الحياة الاجتماعية ورفقائكم في الدرب نفسه، فعليكم أن تكونوا دقيقين في اختيار ما ستقدمونه إليهم بمثل اهتمامكم ودقتكم في تقديم الهدايا.

وعلينا ألا ننسى أن أحوج ما يحتاجه إنسان اليوم: قليل من الكلام الطيب والنصح له. وكذا فإن أثمن هدية في الوقت الحاضر هي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأن أول ما علينا لأجل تحقيق هذه الوظيفة على الوجه الأكمل، معرفة الشخص المخاطب أو الأشخاص المخاطبين وتشخيص ما يحتاجونه تشخيصا جيدا. إذ بخلافه سيكون الأمر كأنك تريد إلباس ثوب لشخص يضجر منه ولا يعجبه ولا يليق به وإن كان من أفخر الأقمشة وأجودها . فعلى الرغم من أن هذا الأمر معروف إلا أنه يفعل فعل المنكر.فلا يعني شيئا لمن ابتلي بأفكار وشتى مذاهب ضالة أن تعرج به في أرجاء السماوات العلى قبل أن تصفي مفاهيمه. إذ كيف تتلألأ نجوم السماء في مرآة وجدان من انكسف قلبه وأظلمت روحه؟ ومن هنا فإن تشخيص حاجة أي إنسان كان من أهم الأمور، كي يؤثر الكلام فيه وتجدي المحاورة معه، وربما تهزه هزا ولعلها تكون سببا لاسترشاده. ولربما حسراتكم المليئة بالأنات المؤلمة هذه تكون سببا في ملء خوائه المعنوي ودفع حاجته المعنوية. ولا هدية أغلى وأثمن من تلك الأنات والاستغاثات المليئة بالأحزان مع القول اللين الذي يعيد إليه الصواب. بل ربما تكون تلك الاستغاثة سببا في إيقاف جميع تصرفاته الخاطئة في المستقبل وتسوقه مع القول اللين إلى سبيل الاستقامة والصواب فالهدية التي تكون سببا لتوجه المرء من السيئات إلى الحسنات هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالذات. وأحسب أنها الهدايا.

لقد دامت أيام محاصرة خيبر دون أن تسفر عن شيء حيث كان يهود خيبر يقاومون الحصار بكل طاقتهم وذات يوم قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ( لأعطين الراية-أو قال- ليأخذن غدا رجل يحبه الله ورسوله-أو قال يحب الله ورسوله يفتح الله عليه)  فهذه أعظم بشارة للصحابة الكرام، إذ كان كل منهم يتمنى هذه المنزلة. علما أن كلا منهم كان يفضل أخاه المؤمن على نفسه في الشؤون كلها. حتى أن بعضهم عندما قدم إليه قدح من ماء يشربه نظر إلى من حوله فقال للذي جاء به : ويحك كيف أشرب أنا وهؤلاء يلتفون حولي؟ أعطه من شئت منهم. فإن كان يصح في وقت إيثار ففي مثل هذا الوقت، ومات عطشا، وهكذا كان يؤثر أخاه المؤمن على نفسه حتى يقدر أن يُملّكه ما يمتلك حبا وكرامة. إلا أن الكلام الذي نطق به الرسول الكريم في هذا اليوم هو بشارة ضمان محبة الله ورسوله، لا يفوته أحد ولا يؤثر فيه على نفسه أحد أحدا.

والخلاصة أن كل واحد كان يريد أن يحظى بهذه المرتبة. حتى أن سيدنا  عمر ذا الفطرة النادرة قال : ( … فما أحببت الإمارة قبل يومئذ فتطاولت لها واستشرفت رجاء أن يدفعها إلي) ذلك لأن فيها ضمان محبة الله ورسوله  لذا لم يغمض للصحب الكرام جفن حتى الصباح انتظارا لهذه البشارة العظمى، فالجميع يترقبون لمن تعطى الراية؟ وفي الصباح الباكر انتظروا بلهفة البشارة فأخذوا موضعهم في الصف الأول من صلاة الفجر حيث ستسلم الراية عقبها.

وفعلا بعد أن أنهى الرسول الكريم  الصلاة تركزت العيون إليه في انتظار:ماذا سيخرج من بين الشفتين المباركتين؟ نعم وقد نطق ذلك الفم الذي يفوح بطيب الجنة اسم من هو أسعد إنسان في الدنيا وأكثرهم حظا. فقد آن أوان النطق بهذه البشارة العظمى حيث قد بلغ الاهتياج ذروته. فقال  بصوته الرقيق الشفيق :” أين علي؟” وعندها عرف الأمر أن الإنسان المحظوظ هو سيدنا علي رضوان الله عليه، ولكن مازال هناك أمل يستشرف له الصحابة الكرام وهو غياب سيدنا علي بسبب عينه الرمداء فأجابوا الرسول مساقين بهذا الأمل : إنه هاهنا مريض يرقد. فدعاه الرسول  ومسح عينه بإصبعه المباركة بعد أن وضعها في فمه المبارك فطابت تلك العين حتى لم يذق سيدنا علي طوال حياته ألما في عينه.

وهكذا وجدت الراية صاحبها المحظوظ، فتسلمها علي وتوجه نحو خيبر ولكن توقف فجأة مستفسرا من الرسول  على أي شيء نحاربهم؟ وعلى ماذا ندعوهم؟ فأجابه سيد الكونين  :

( انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلىالإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم).

ومنذ ذلك الوقت لم يدخل جيش الإسلام إلى موضع وفي أي وقت كان إلا وكأن كل جندي في أذنه صدى أمر الرسول   هذا فيتلقاه واجبا تنفيذه.

ففي العهود السابقة نفذ نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق هذا الحديث الشريف وأمثاله من الأحاديث الشريفة من جهة وما عمله الرسول  في حياته من جهة أخرى بمعنى أن طلائع الإرشاد يدخلون البلاد التي ستفتح وينشرون الحق ويهيئون الجو لصالح المسلمين ، فإذا استجاب أهل تلك البلاد إلى الأمر فسيدخلون الإسلام وتعد بلادهم ديار الإسلام. ولكن إذا قاوموا وجابهوا المرشدين بمعارضة وأعاقوا نشر الإسلام، يحسم الأمر بالفتح وفق ماذكرنا سابقا من القواعد. أي يبلغون الإسلام أولا، لأنهم يعلمون يقينا أن إرشاد رجل واحد خير من إنفاق ملء الأرض من حمر النعم في سبيل الله .

ومن هنا نرى أن أجمل هدية يقدمها المسلم باسم الإنسانية، هو تحقيقه لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نعم، إن أداء هذه الوظيفة بإحسان ولطف لهو أعظم هدية وأثمنها.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>