دروس من سيرة المصطفى:الاصطفاء : قواعده، مراحله، شروطه ووظيفته


 

لكن الأمة بما اعتراها من :

أ- جهل متراكم لفقه الدين عقيدةً وفَهْماً لمقاصده وأسْرَارِ شريعته، وفِقْهِ التديُّن عبادة وسلوكا، ودعوة ومنهاجا.

ب- وحكم جبري عضوض يُعَبِّد الناس للأهواء والشهوات، لا يَقْبَلُ من أحد نُصْحاً أو نقداً أو توجيها، دستوره -كما ابتدع العَضُوضُون الأولون- : >مَنْ قَالَ لِي اتَّقِ اللّهَ في مَجْلِسِي هَذَا ضَرَبْتُ عُنُقَه< أوْ >مَنْ قَالَ لَنَا بِرَأْسِهِ كَذَا قُلْنَا لَهُ بِسَيْفِناَ كَذَا< أي من عارض كان جزاؤه حَزَّ الرَّقَبة وفَصْلَ الرؤوس عن الأجساد، وسار على منوالهم كل من وَرِثَ هذا المنهج الغريب عن الإسلام، فألْزَموا الناس بالصّمْتِ حتى لا يُطِيلَ أحدٌ لسانه في المناطق المحرّمَةِ قَانُوناً وعُرْفاً، الواجبة شَرْعا وتواصِياً بالحق والصَّبْر عليه.

جـ- وتمزُّقٍ عُضْوي على مستوى الأقطار والدول، وعلى مستوى الأحزاب والهيآت والحركات والجماعات، وعلى مستوى الولاءات والمشاعر والاهتمامات، وعلى مستوى الثقافات المتعددة المشارب والمنابع والأصول… حيث أبعد هذا التَّمزق التفكير في رسالة الأمة، والعمل من أجل مصلحتها ومصلحة الإنسانية جمعاء، ومزَّق أنْسِجَة الروابط الأخوية التي عليها تآلفت القلوب يوم كانت خَيْرَ أَمَّة أُخْرجَتْ للناس.

د- وتكالُب مَسْعُور دولي ومحلي على الإسلام وأهله لضربه وخَنْق أنفاس مُتَّبِعيه والداعين إليه، سَالَمُوا أو انتَفَضُوا، لاَنُوا وهَادَنُوا أو امتعضُوا، رَضُوا بالديمقراطية أو رَفَضُوا،… كل ذلك وغيره لا يُعْطي مبررا -في عُرْف أعداء الإسلام- لوجوده في الساحة يقارع ويُجَاهِدُ {ولاَيَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إن اسْتَطَاعُوا}-البقرة، {ولَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ ولاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}-البقرة-.

إن هذه الأسباب وغيرها كثير يجعل اصطفاء العاملين ضروريا لحمْلِ الأمانة، وإنهـــــاض الأمَّةِ للقيام بـــدورها المنوط بها، وهـــي الشهادة على الناس  {وكذَلِكَ جَعَلْنَكُم أمَّةً وسَطاً لتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاس ويكُون الرَّسُول عَلَيْكُم شهِيداً} -سورة البقرة-، إذ لا تَبْرَأُ ساحَتُها من المسؤولية حتى تَتَدَيَّن بالإسلام تديُّناً صحيحا، وتتحرك به تحرُّكا صحيحا حكيما بصيرا، وسَطَ واقع مدروس دراسة صحيحة، يَحْكُمُ التديُّنَ والتحركَ الإخلاصُ في القَصْدِ والصَّوَابُ فِي العَمَل.

الاصطفاء سنة ربانية :

قال الله عز وجل {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويَخْتَارُ}-سورة القصص- قال ابن قيم الجوزية : >وإِنَّما المُرَادُ بالاخْتِيَارِ هَـاهُنَا : الاجْتِبَاءُ والإِصْطِفَاءُ، فهو اختيارٌ بعد الخَلْق، والاختيارُ العام اختيار قبل الخَلْق… فكما أنه المُنْفرد بالخلق، فهو المنْفَرد بالاختيار منه، فليس لأحد أن يَخلُق، ولا أن يختار سواه، فإنه سبحانه أعْلَم بمواقع اختياره، ومَحَالِّ رضاه، وما يصلُح للاختيار مما لا يَصْلُح له، وغيره لا يشاركُه في ذلك بوجه< -زاد المعاد 1/39-.

وانطلاقا من تفرُّد الله تعالى بالخلق والاختيار لما في ذلك من الدلالة على الوحدانية وكمال الحكمة والعلم والقدرة، فإنه سبحانه وتعالى دَلَّنَا على هذه السنة الربانية في عدة آيات من كتاب الله عز وجل، قال تعالى : {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْرَاهِيمَ وآلَ عِمْرَانَ على العَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}-آل عمران-، {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلاَئِكَةِِ رُسُلاً ومنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}-سورة الحج-، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاَتِهِ}-سورة الأنعام-.

وليست السنة الربانية مقصورة على اصطفاء الرسل والأنبياء والملائكة، بل نجده سبحانه يفضِّلُ جَنَّة الفردوس على سائر الجنان، ويجْعَل البَلَدَ الحرام أَفْضَل البلاد، ورمضان أفضل الشهور، وليلة القدر أفضل الليالي، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة أفضل أيام السنة، … (انظر زاد المعاد : 39/1 وما بعدها).

وكما اختار سبحانه الأنبياء والرسل وجعل محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم عليه السلام فإنه عز وجل اختار أمة محمد لحمل آخر الرسالات، وأخْرَجَهَا خير إخراج لتكون مؤهلة للشهادة على الناس، ومؤتمنة على تركة الأنبياء والرسل {وجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} -سورة الحج-.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>