السياسة تدحر الدعوة، أو أزمة العمل التنظيمي الإسلامي المعاصر 1/ 2


قراءة في كتاب “البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي”  للدكتور فريد الأنصاري

مهما اختلف المرء مع الباحث فريد الأنصاري في بعض أفكاره، بل ومنطلقاته المرجعية، وكنا قد سجلنا ذلك في أكثر من مناسبة، لا يملك الباحث المنصف إلا أن يثمن مجهوده الكبير في كتابه “البيان الدعوي، وظاهرة التضخم السياسي” وأن يشيد بشجاعته في نقد التنظيم الإسلامي المعاصر، ودق ناقوس الخطر، بصراحة كبيرة، لما أصابه من انهيار واندثار، ولما ينتظره من تحديات.

فالإخوان بنظر فريد الأنصاري، لم يستطيعوا التخلي عن بريق الشعارات الزائفة، فأتى الله بنيانهم من القواعد.(ص8) وهذه المحاولة النقدية يرجع فريد أساسها إلى القرآن الكريم، لأن الحركة نسيت كتاب الله وهجرته هجرانا غريبا وانحصرت في مقولات فكرية وفقهية تحولت إلى أوثان بيد الإسلاميين.(ص.9).

فالعمل الإسلامي انحصر في العمل السياسي، وهو ما حوله حقيقة إلى وصف الإسلام السياسي، بكل موضوعية ونزاهة، وليس ادعاء خصوم أو حاقدين. والإسلام السياسي يقصد به أصحاب الاختيار السياسي الصدامي، أو أصحاب الاختيار السياسي المشارك؛ فهما وجهان لعملة واحدة بنظر الباحث.

إن الحركة الإسلامية، بنظر فريد، قد ابتعدت عن المنطلقات وانزلقت إلى تصورات و ممارسات وهمية، وحصل الانحراف ! (ص9).

هذه الانتقادات اللاذعة أحس الباحث فريد الأنصاري أنها ستعرضه لهجوم الإخوان واتهاماتهم على عاداتهم في التعامل مع المخالفين، فاستبق القول داعيا إلى الحوار الهادئ، داخليا وخارجيا، وترك أسلوب الاتهام الإيديولوجي، مما كانت تنعاه الحركة على الاتجاهات الماركسية في السابق، كأسلوب (للتخلص السهل) من الرأي الآخر برمي صاحبه بالتخاذل، والجبن، والعمالة للمخابرات، والانحياز إلى النظام، والركون إلى الذين ظلموا…) وغيرها من شتى أنواع السباب التي تدل، بنظر الباحث، على تلك ( الحيل النفسية ) المستهلكة لحظة العجز عن ممارسة الحوار العلمي المتبصر، وذلك بوضع صاحب البرهان، ورافع راية الاستدلال في قفص الاتهام؟ ولكن، إلى متى؟ وها كل تجربة مهما اعتقد الناس من قداستها يفضحها محك التجارب. (ص11).

وقدم فريد بحثا تاريخيا للحركة الإسلامية المعاصرة، وانتهى إلى أن حركة الصحوة الإسلامية بعامة هي تعبير اجتماعي عن مكنون المجتمع الديني، أي إنها (بيان دعوي ) وتعبير اضـطراري. (ص 39 ). فهي رغبة طبيعية في التدين مع إحساس بالحرمان، مما جعلها تكتسي طابع رد الفعل.(ص41).

وناقش الباحث الأحكام السياسية من حيث مرتبتها التشريعية، مقدما مرافعة أصولية ضد تسييس العمل الدعوى وتحويل التنظيمات إلى أحزاب سياسية موسمية محدودة الفكر والأداء، وأتباعها إلى كائنات حزبية وانتخابية عصابية، لا يختلفون عمن أتت الحركة أصلا بديلا عنهم !

فقد رفض الباحث فريد مقولة، مفتاحية أي أسبقية العمل السياسي في الإصلاح والتجديد سواء لدى من يعتبره غاية في نفسه أو وسيلة لغيره.(ص 44-45). واستدل على ذلك بتبيين موقع المسألة السياسية في نصوص الشريعة ومقاصدها. وانطلق من قاعدة أصولية تقول: إن ما كان من أصول الدين الاعتقادية أو العملية إنما يكون أصل تشريعه في القرآن، ولا يترك منه للسنة إلا ما كان من قبيل البيان والتفصيل؛ من توضيح الهيآت وبيان الكيفيات، وذلك شأن الإيمان بالله واليوم الآخر والصلاة والصيام والزكاة والحج، من الواجبات، وكذا شأن الخمر والميسر والزنى، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب، من المحرمات. فقد ورد تشريع كل ذلك في القرآن أساسا.(ص45). والقرآن هو أصل التشريع الأول. فلا يصح، بنظر فريد، أن يعتقد أن بعض الأصول الدينية التشريعية قد أهملت من القرآن لتتولى السنة تشريعها؛ فهذا مما يخالف قصد الشارع، وطبيعة التشريع الإسلامي وقواعده الكلية الاستقرائية.(ص46). فالسنة بنظر الباحث، تؤكد التشريع ولا تؤسسه. فمن أخطأ هذه القاعدة الأصولية الجليلة فاته كثير من فقه الدين.(ص47).

ويقصد الباحث بالأحكام السياسية التي بحث في مراتبها، بناء على التصور السابق، كل التشريعات المتعلقة بتدبير الشؤون العامة للدولة، على المستوى الدستوري والإداري والتنفيذي، أو ماسمي قديما بالأحكام السلطانية.(ص54).

ويذهب الباحث إلى أن الأحكام السياسية لم تنل من التشريع الإسلامي إلا المرتبة الثالثة. ومجالها الاجتهاد المحض؛ فالقرآن الكريم يخلو من نصوص مخصوصة بالشأن السياسي، ما عدا آيتي الشورى “وشاورهم في الأمر”أل عمران: 159، “وأمرهم شورى بينهم” الشورى: 35 والآيتان، بنظر الباحث، ليستا نصا على الشورى بالمعنى السياسي إطلاقا.(ص 61). وهذا التخريج الذي قدمه الباحث يزيد مسألة الشأن السياسي في تفكير الحركات الإسلامية تعقيدا. فما الفرق إذن بين ما استنتجه الباحث وبين رأي من يدعو إلى إبعاد التخريجات السياسية أصلا عن النصوص الشرعية، خاصة القرآن الكريم؟

فالأحكام السياسية إذن ليست مقصودة للشارع بالأصالة. وأما السنة فأغلب ما ورد فيها من أحاديث عن الشأن السياسي هو من “أحاديث الفتن” أي ما أخبر عنه الرسول (ص) من حوادث عما سيقع خاصة فيها يتعلق بالخلافة والملك. وهذه الأحاديث في أغلبها أخبار، وليست إنشاءات، والأحكام الشرعية تؤخذ من الإنشاء لا من الخبر. (ص 63).

وعلى هذا الأساس وقعت الحركات الإسلامية في خطأين استدلالين بنظر فريد: الأول اعتماد الأحاديث الضعيفة والموضوعة، بل والخرافات في بعض الأحيان في خطابها السياسي، والثاني الاستدلال على المواقف السياسية والتوجهات الحركية من مثل معارضة النظام والثورة ضده أو الزحف عليه على أحاديث الفتن، والتي لايؤخد منها التشريع.

وخص الباحث بالنقد مشروع الأستاذ عبد السلام ياسين الذي اعتمد حديث “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت/ (رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم5).

فقد اعتبر الباحث فريد أن الاستدلال بهذا الحديث لرسم الخط السياسي، خاطئ من وجهة نظر استدلالية؛ فالحديث هو مجرد وصف خبري لما سيكون عليه الحال بعد النبي (ص)، فهو إذن من أحاديث الفتن، وليس من نصوص التشريع. ثم إن تعيين هذا الحديث وتنزيله أو ما يسميه الأصوليون “بتحقيق المناط” مجرد اجتهاد بشري؛ فلا ندري أي نظام هو من الخلافة، أو من الملك العاض، أو من الملك الجبري. يضاف إلى هذا أن الملك العاض والجبري داخلان تحت مفهوم الخلافة وإن كانا ليسا على منهاج النبوة؛ فالخلافة قد تكون على منهاج النبوة، وقد تكون ملكا عاضا، وقد تكون ملكا جبريا. ومن هذا المنطلق قال ابن تيمية بجواز شوب الخلافة بالملك في الشريعة الإسلامية. (ص 64). ثم يستنتج الباحث من الحديث أن الخلافة    تجربة بشرية ذات مراتب متعددة.

وحتى إذا سلم الباحث لمن يأخذ الأحكام السياسية من أحاديث الفتن غير التشريعية، فهو يرى أن أحاديث فتن أوثق وأصح تلزم بالسمع والطاعة لخلافة الملك العاض  والجبري، وتحذر من الفتن والعصيان والخروج. ونحن نعلم أن فقه السنة والجماعة في معظمه عرف بالدعوة إلى طاعة الأمراء، ولو كانوا ظلمة فساقا رعيا للمصلحة الراجحة المتمثلة في اجتماع كلمة المسلمين من جهة، ولتأخر رتبة الأحكام السياسية في التشريع الإسلامي من جهة أخرى، ولهم في ذلك أحاديث صحيحة مليحة، تواتر معناها تواترا كليا، ووردت عند الشيخين.(ص67) و قد أورد الباحث نماذج كثيرة منها، فلماذا لم يأخذ بها الأستاذ ياسين؟ إنه إذن الانتقاء في استثمار الأحاديث خارج المواصفات الاستدلالية المعقولة.

و لقد أحس الباحث بحرج البحث في هذه النقطة، فأكد أكثر من مرة أنه لا يسعى إلى تزين واجهات هذا النظام أو ذاك، ولا يقبل جور السلطان، ولا مفاسد الطغيان. (ص 65، 07، 89).

إن أحاديث الفتن إذن التي تتكئ عليها الكثير من الحركات الإسلامية السياسية، ليست أبدا محل التشريع. من هنا فالقضية السياسية في الفقه الإسلامي هي من باب الاجتهاد البشري المحض، ولا تكون بالنسبة لجوهر الدين من حيث هو (دين) إلا وسيلة لا ركنا ولا غاية. وليست من أصول الإسلام وأركانه الإيمانية والعملية، المشكلة لمعمارالعبادات المحضة، مما نص عليه في الكتاب والسنة؛ فحديث جبريل المشهور مثلا عن الإيمان والإسلام والإحسان، والذي رواه عمر بن الخطاب، هو حديث وأصل جامع من أصول الإسلام، بل فيه، بنظر الباحث، كل ما هو مسمى (دين) في الإسلام، إلا الشأن السياسي. (ص75) فالشأن السياسي لا يدخل، إذن، بنظر فريد الأنصاري ضمن الدين. وعليه ما مبررات كل هذه المجهودات التي ظلت تبشر بها الحركات الإسلامية لإقامة الخلافة الإسلامية المفقودة، وما شرعية الحرص على تأسيس الأحزاب الإسلامية وتعبئة المناضلين، على أساس أن العمل السياسي عمل شرعي في حكم الواجب؟ وما هي حدود الاختلاف بين هذا  الطرح. وبين من يطالبون بضرورة إبعاد الدين عن جزئيات الصراع السياسي، ولا أقول فصل الدين عن السياسة؟ أو ما يسميه عبد الوهاب المسيري بالعلمانية الجزئية، والتي لا يرى ضيرا فيها. ينظر العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، مجلدان، عبد الوهاب المسيري، دار الشروق الطبعة الأولى (1423 ه/2002م).

لقد ذهب الباحث الأنصاري إلى أن إقامة أركان الإسلام ليس مرتبطا البثة بإقامة الخلافة أو إنشاء الدولة. وفي هذه النقطة بالضبط حصل للباحث اضطراب كبير، فأركان الإسلام في غنى عن دولة الإسلام، وقيام الدولة، من جهة أخرى، وبنظر الباحث، مطلب شرعي ضروري. (ص 79) إلا أن اختزال الدين في حزب أو برنامج سياسي، يعتبر خطيئة؛ لأن الدين قضية وجودية كبرى، تتعلق بكينونة الإنسان في الوجود، والدين مذهبية شاملة في الخلق والمنشأ. (ص80) أما المسألة السياسية فلا تنتمي إلى الدين من حيث أصوله العقدية والتعبدية. (ص91)

وانتقل الباحث إلى معالجة قضية شائكة في العمل الإسلامي، وما زال يتخبط فيها مناضلوه نظريا وعمليا، وهي علاقة الفقه السياسي بالفقه الدعوى؟ فضبط العمل الدعوى بنظر الباحث يمر عبر ضبض أصول الفقه السياسي، وفرق بين البرنامج السياسي وأصول الفقه السياسي؛ فالأول جزئي تطبيقي والثاني مجرد كليات وقواعد. ولما كان البرنامج السياسي ذو طبيعة جزئية فهو لا يصلح أن يكون مفتاحا لبعثة التجديد الإسلامي، أي ليس مدخلا للعمل. وعليه فالمشاركة السياسية، بنظر الباحث، سواء كانت مساندة أو معارضة، هي في حد ذاتها انحراف عن متطلبات العمل الإسلامي/الدعوى وتجاوز لأولياته.

إن القضية السياسية هي أشد القضايا اختلافا بين المسلمين عبر التاريخ وإلى اليوم. فلا تجد شيئا من النصوص والإجماعات تعول عليه فيها، إنما هو الرأي والرأي الآخر. (ص84 ) فالأحكام السلطانية كلها ذات طابع عرفي واجتهادي محض. (ص89) فليس من حق أي واحد، بنظر فريد، أن يتكلم سياسيا باسم الدين الكلي، وإنما حقه أن يتكلم باسم رأي، والرأي كل الرأي، قابل للخطأ والصواب. (ص93) ومهما احتج المناضلون الإسلاميون بآيات الحكم، منذ المودودي وسيد قطب، اللذين كرسامفهوم الدولة الثيوقراطية ورفضا الديموقراطية، فإن تصورهم قد جمع بين ما هو تشريعي قضائي وما هو سياسي سلطوي في مفهوم التوحيد. فتحولت المسألة السياسية إلى قضية من قضايا أصول الدين. وهذا الخلط هو الذي سبب اضطرا بات كثيرة في الفهم والممارسة عند الكثير من الجماعات الإسلامية، إلى درجة تشييد معمار تصوري وحركي في المفاصلة وهجرة المجتمع، والقول بجاهلية المجتمعات الإسلامية، كما برز عند سيد قطب. وحاول يوسف القرضاوي رفع بعض الالتباسات في فكر قطب والمودودي، إلا أن الباحث الأنصاري استدرك عليه، موضحا أن البون شاسع بين (الحاكم) كما جاء  في مصنفات علم أصول الفقه، ومفهوم (الحاكمية) كما عرضها المودودي وسيد قطب؛ فالأصوليون بحثوا الحاكم بمعنى الشارع، أما المودودي وقطب فيتكلمان عن الحاكم بمعنى رئيس الدولة، أو الخليفة أو الإمام، وهذا مبحث سياسي لا علاقة له بأصول الفقه.(ص98 ).

ويرجعالباحث أسباب هذا الخلط التصوري عند المنظرين الإسلاميين إلى عدم التحري من تسرب رد الفعل النفسي إزاء الظلم السياسي والاجتماعي الغالب على وضع العالم الإسلامي. فالقرآن الكريم استعمل مادة (حكم) في سياقات متعددة منها التشريع والقضاء والحكمة والقدر الإلهي، ولم يخلط بين السياقات. ولكن لا دلالة في القرآن للحكم على المعنى السياسي أي السلطة. فدلالة الحكم استقرت في تاريخ التشريع الإسلامي على معنى (القضاء). أما دلالته السياسية فهي دخيلة وليست أصيلة ! (ص100-101) ولم يمنع هذا التصور الباحث الأنصاري من الرد على الذين  أنكروا مفهوم الحاكمية الإلهية، حتى بالمعنى التشريعي، وانتقد محمد سعيد العشماوي في كتابه المعروف (الإسلام السياسي). (ص 101-103).

> يتبع

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>