الإصلاح في القرآن الكريم : المفهوم والمنهجية


1- حـــول المفهـــوم :

مادة الإصلاح مصدر للفعل الرباعي أصلح، نقول: أصلح في أمره إذا أتى عملا حسنا، وعمل عملا صالحا إذا قام بعمل مفيد، والإصلاح جعل الشيء صالحا، أي ذا صلاح، ولنضبط دلالة أو مفهوم المصطلح كما يقول علماء اللغة لابد أن نضعه ضمن ثنائية تصورية، ومصطلح الإصلاح قابل لأن يوضع في إطار ثنائيتين:

الأولــى: إصلاح/تغيير، وهذه الثنائية هي التي تبناها الفلاسفة والمفكرون الغربيون في القرن الثامن عشر، حيث تبنوا في دعوتهم الإصلاحية تغيير النظم الاجتماعية والسياسية بشكل جذري، وقطع الصلة مع كل ما كان سائدا حتى ولو كان فيه ما هو صالح وقد نعتوا بعد نجاح الثورة الفرنسية دعاة المحافظة على الواقع وإصلاح ما فسد منه بالرجعية والجمود.

الثانيـــة هي: إصلاح / إفساد

وهما -إصلاح/تغيير- و – إصلاح/إفساد- في القرآن الكريم بمعنى واحد، مع الإشارة إلى أن التغيير يمكن أن يكون من الأسوء إلى الأحسن ومن الأحسن إلى الأسوء، وتفسير قوله تعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد : 11) دليل على ذلك.

أما الإصلاح فإنه يكون دائما نحو الأحسن والأفضل. قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: “الصلاح ضد الفساد، وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال وقوبل في القرآن تارة بالفساد وتارة بــالسيئة، قال : {خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} :ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها” “والذين آمنوا وعملوا الصالحات” في مواضع كثيرة” وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره: التحرير والتنوير “الإصلاح ضد الإفساد، أي جعل الشيء صالحا، يقال صلح بعد أن كان فاسدا، ويقال صلح بمعنى وجد من أول وهلة صالحا”. والصلاح الذي أراده القرآن الكريم هو الذي تصلح به أحوال الإنسان وإصلاح ذاته وعقيدته وسلوكه ومحيطه أيضا، وعلى هذا فهو إصلاحشامل لكل نواحي حياته وليس إصلاحا جزئيا، ولن يكون هذا إلا باتباع الأوامر الإلهية كما قال صاحب التحرير والتنوير في تفسير الآية 69 من سورة المائدة : {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابون والنصارى من آمن بالله وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هو يحزنون}(المائدة : 69) فكان المسلمون لأنهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح أولين في هذا الفضل وأول الأعمال الصالحة تصديق الرسول ، والإيمان بالقرآن الكريم، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي”. وهذا واضح لأن فعل الصلاح لا يكون إلا بطاعة الله عز وجل في ما أمر ونهى، لأنه تبارك وتعالى ما أراد بشرعه إلا صلاح الإنسان كما حكى القرآن الكريم عن شعيب عليه السلام حيث لخص رسالته في كلمة جامعة هي الإصلاح قال تعالى : {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}(هود : 61).

وآية صدق الإنسان في اتباعه الأوامر الإلهية، هي الإصلاح في العمل وإعلان الحق والاعتراف به والعمل بمقتضاه، ومن هنا يمكن أن نقول بأن مفهوم الإصلاح في القرآن الكريم هو إقامة الشرائع الربانية، وعمارة الأرض بالخير والصلاح، قال تعالى : {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}(سورة هود)

مفهوم الإصلاح الذي تبناه القرآن الكريم هو القضاء على الفساد، واقتلاع جذوره، وتطهير الأرض والنفس والمجتمع البشري كله من آثاره، وإحلال الصلاح والإصلاح محله، وأول خطوة في الإصلاح هي : ترك ما يمكن أن يفضي إلى فساد قال تعالى : {اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}(الأعراف : 142) وهي كلمة جامعة لكل معاني الخير والصلاح.

2- السياسة الإصلاحية في القرآن الكريم :

لقد ركز القرآن الكريم على إصلاح الفرد، وفي صلاح الفرد صلاح للجماعة، وعلى هذين الأساسين يبنى صلاح النظام العمراني، السياسي والاجتماعي، فيحفظ نظام العالم الإسلامي ويضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضها ببعض على وجه يحفظ مصالح الجميع ويرعى المصالح الكلية للكيان المسلم ويضبط تصرفاته ومعاملاته مع غيره من المجتمعات.

وقد اعتمد القرآن الكريم أربعة مبادئ لإصلاح الفرد وهي:

- مبـــدأ العقيـــدة الصحيحــة

- مبـــدأ العلـــم النافـــــع

- مبـــدأ العبـــادة السليمـــة

- مبـــدأ الخلـــق الحســـن

مبــدأ العقيــدة الصحيحـــة

لقد ركز القرآن الكريم على تحرير الإنسان من القيود التي يرزح تحتها معتمدا في ذلك على تهذيب النفس وتزكيتها، ومركزا بشكل كبير على إصلاح المعتقد، وقد سلك في سبيل ذلك مسلك التخلية ثم التحلية، فبدأ بتحرير العقل من المعتقدات الفاسدة، سواء كانت أصناما أو أموالا أو أهواء أو غير ذلك، قال عز من قائل : {أفرايت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون}(الجاثية : 23) وقال أيضا : {يأيها الناس ضرب مثل فاستعموا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب}(الحج : 73) {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك}(يونس : 106) ثم عمل على غرس بذور العقيدة الصحيحة المبنية على العلم، وإعمال العقل، وتربية النفس على عدم الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، قال الله تعالى : {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}(البقرة : 111). {وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون}(المؤمنون : 48- 80).

وهو -أي إصلاح المعتقد- يطهر عقل الإنسان مما علق به من أوهام ناشئة عن الشرك بالله بكل أنواعه ومسمياته، ويحرره من ذل العبودية لغير الله تعالى، وينزع من قلبه الخوف والجبن والتثاقل، ويسكب في نفسه الرضى والسكينة، ويغرس في نفسه شجاعة لا نظير لها، كما قال سيد سابق في كتابه العقائد الإسلامية: “فإن تهذيب سلوك الأفراد عن طريق غرس العقيدة الإسلامية من أعظم أساليب التربية والإصلاح حيث إن للدين سلطانا على القلوب وتأثيرا على النفوس لا يدانيه في سلطانه وتأثيره شيء آخر من الوسائل التي ابتكرها رجال التربية فغرس العقيدة وتقويتها في النفوس هو أمثل طريقة بإيجاد عناصر صالحة تستطيع أن تقوم بدورها كاملا في الحياة”.

وليس هناك شيء غير العقيدة الإسلامية الصحيحة يستطيع أو يملك أن يغير النفس تغييرا تاما من الانحراف إلى الرشد، وينشئ الإنسان خلقا آخر، ولا وجه للمقارنة بين ما كان عليه العرب قبل نزول القرآن وما كانوا عليه بعد نزوله، والوقائع التي تشهد بذلك كثيرة منها على سبيل المثال واقعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، الذي بلغ في الجاهلية مبلغا جعل أحد المسلمين يقول عنه: “والله لو أسلم حمار الخطاب ما أسلم عمر بن الخطاب”. لكن عندما شرب من المنبع الصافي، وحلت العقيدة الإسلامية محل الشرك والوثنية،أصبح خلقا آخر وبلغت به الرحمة أن يحمل نفسه المسؤولية حتى عن الدواب ناهيك عن الإنسان، فيقول: والله لو عثرت بغلة في العراق لخفت أن يسألني الله عنها لِمَ لَمْ تسو لها الطريق يا عمر”.

إن بناء الإنسان من الناحية العقدية هو الخطوة الأولى نحو الإصلاح، هذا ما فعله القرآن الكريم، وهو الذي قام به المرسلون على مدى القرون المتطاولة، وفرغ له سيد المصلحين جهوده كاملة على مدى ثلاثة عشر سنة بمكة المكرمة.

مبــدأ العلـــم النافـــع

لقد عمل القرآن الكريم على تحرير الإنسان من الجهل، وإخراجه من غياهب الأمية إلى نور المعرفة، وقد حرص أشد الحرص على هذا الامر فجعل العلم والتعلم من أهم أهدافه حتى إن أول آية نزلت فيه هي الدعوة إلى العلم. “اقرأ” وقد جاء تركيزالقرآن على قضية إصلاح الفرد بأمره بالتعلم وإعمال الفكر، لأنه إن لم يكن هناك علم فسيكون جهل، والجهل من أعظم الأسباب التي تدفع الإنسان إلى ارتكاب الحماقات، والسقوط في المتاهات.

والقرآن الكريم غني بالدعوة إلى العلم والتعلم، وبيان فضل العلم والعلماء. قال عز وجل: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} – {إنما يخشى الله من عباده العلماء}(فاطر : 28) – {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}(العنكبوت : 43). وقد جاء تركيز القرآن الكريم على بناء الإنسان بالعلم، لأنه مكون أساسي في بناء شخصيته، وقد عبر عن هذا المعنى محمد إقبال فقال في معرض حديثه عن العلم : “إنه هو الحامض الذي يذيب شخصية الكائن الحي ثم يكونها كما يشاء”.

ولقد أصابنا الأعداء في المقتل عندما ركزوا جهودهم على مسألة التعليم في الوطن الإسلامي، فشحذوا لذلك كل أسلحتهم، واستجمعوا كل إمكاناتهم، ليأخذوا منا القيادة في هذا المضمار، فرسموا لنا الخطوط، وسطروا لنا البرامج التي علينا أن نسير وفقها ولا نحيد عنها قيد أنملة، فأصبحنا بعد ما كنا قادة في العلم والمعرفة، مضرب المثل في الأمية والجهل. والمؤسف هو أنه حتى المصلحين الآن الذين يحملون مشعل الإصلاح لم يضعوا أيديهم بعد على النقطة الصحيحة، ألا وهي العمل على إنتاج جيل قرآني تعلم ودرس انطلاقا من قاعدة بسم الله {اقرأ بسم ربك الذي خلق}(العلق : 1) مع أن هاته الخطوة كانت هي الخطوة الأولى التي انطلق منها الجيل الراشد، وبنيت عليها اعظم حضارة عرفتها الإنسانية وحولت أناسا من موقع الصدارة في الجهل إلى موقع الريادة في العلم، ولن نأتي بنماذج من خير القرون، وإنما نكتفي فقط برسالة وجهها ملك إنجلترا “جون” إلى خليفة المسلمين في أوائل القرن الثالث عشر ميلادي : “فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم التي  يحتاطها  الجهل من أركانها الأربعة وقد وضعنا ابنة شقيقتنا الأميرة دوبانت على رأس بعثة من بنات أشراف الإنجليز ..خادمكم جورج” ولقد حرص على أن يزرع في الإنسان المسلم مبدأ التعامل بالعلم مع جميع الأمور بحيث لا يقبل شيئا أو يرفضه إلا بالعلم ولا يتعامل مع قضايا أو أخبار أو أحداث إلا بالعلم ولن يتحقق الإصلاح المنشود بالدروشة أو بالسبحة أو بالعقلية النصرانية: آمن ولا تسأل! وإنما بالعلم والعلماء لذلك وجدنا القرآن قد رفض الإنسان المنطوي والمنكمش وعمل على زرع ملكة البحث في الإنسان ودفعه إلى النظر والتجربة والتأمل والملاحظة والكشف عن القوانين والسنن الكونية مستعملا في ذلك ما يملكه من حواس، قال تعالى : {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض}(يونس : 100).

وقال عز من قائل : {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت،وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت}(الغاشية : 16- 19)وفي ختام الحديث عن هذا المبدأ، نقول ما قاله الأستاذ عمر عبيد حسنة في مدارسته مع الشيخ محمد الغزالي، المنشورة في كتاب : “كيف نتعامل مع القرآن” إنه القرآن وضع الإنسان في مناخ الكون حسسه بالزمان والمكان ..ولفت نظره للسنن الجارية في الحياة والكون المادي !.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>