من (فَلْيِ) الرؤوس… إلى (فَلْيِ) النصوص…


لعل أشهر صورة لسنة (2003) صورة (فَلْى) رأس عربية تناقلتها الفضائيات العالمية، فجرحت الكبرياء حتى الصميم وأثارت اشمئزاز البعض وشماتة البعض الآخر… وجهٌ من أوجه العولمة المقيتة حيث يبلغ احتواء الشعوب ذروته… وصورة تذكرنا بمشاهد (الشمبانزي) إذ يتولى الأقوى (فليَ) الصغار والمرضى والعجزة والمستضفين.. وهي وإن كانت استضعافا (للمَفْلِيِّ) فإنها لا تخلو من إهانة (للفَالِي) حين ينزل من برج استكباره ليتعقب (القمل)!

والفعل (فَلَى) الدارجُ على الألسنة عربيٌّ فصيح وله معانٍ متعددة منها ذلك المعنى القميء ويستعمل مجردا ومزيدا، وهو في زياداته لا يخرج عن دائرة التعقب.

والاستعمال السابق ذو ارتباط باستعمال آخر فيقال : (فَلَى) الأمرَ فَلْيا تأمل وجوهَه ونظر فيها…والشّعْرَ تدبره واستخرج معانيه وغرائبه… وعند هذا المعنى أتوقف قليلا..

إننا -كأدباء من العالم الثالث- لا نأمن على أدبنا من (الفلي) وهو أهون ما يمكن أن يحدث والاستكبار العالمي يصل أوجه خصوصا أدب المرأة باعتبارها العضو الحساس في أي مجتمع؛ فما القضايا المفترضة التي قد يرغب بعض الدارسين الغرباء في معرفتها عن هذا الأدب؟ أهي المواضيع التي تحرك الأقلام النسائية؟ أم الهيئات والجمعيات الداعمة للأدب النسائي (إن وجدت)؟ أم عراقيل الإصدار والنشر؟ أم طبيعة الجمهور المتلقي لهذا الأدب؟ أم رأي المرأة الأديبة في مواضيعَ كالسلام والحب والدين ومدى قدرتها ـحسب زعمهم ـ على  تكسير ما يسمونه (بالطابوهات)؟ أم المشاريع والطموحات المستقبلية للأديبة؟… لست أدري.

أقول لك أختي الأديبة بعد هذه الأسئلة المفترضة : لا تقولي إلا ما تعتقدينه…

قولي بأنك الإنسانة الصادقة التي لم تكرس أدبها إلا لإشاعة ثقافة الحق والخير والسلام تلك الثقافة المتفتقة من التصور الفطري الراقي للكون والحياة والانسان… قولي بأنك العصامية التي لا تصنعها هيئة أو منظمة ولا تجري وراء القشور لعَرَضٍ زائل… وبأن لا مشكل لديك مع الآخر إذا كان يحترم ذاتك بعيدا عن الاستيلاب والتهميش والاذلال.. وأنك تؤمنين بحوار الحضارات وتلاقح الثقافات شريطة أن تحصني وجودك النابع من هويتك الإسلامية وخصوصياتك… قولي أيضا بأنك تتوجهين بأدبك إلى الانسان -رجلا وامرأة- ولا تحملين عداء لأي إنسان ما دام يقدر وجودك ويحترم إنسانيتك التي يوحدها بإنسانيته -الطينُ – بداية ونهاية.

ولعلني أطمئن على أختي الأديبة… وأعرف الكثيرات منهن داخل الوطن وخارجه ممن لا مولى لهن من دون الله.. ولا مطامح لهن ولا مشاريع… ولم يشتغلن إلا برسالة الأدب الباني فهو مشروعهن، ولم يُفْتَنَّ يوما بمقولة (الفن للفن) التي كانت كارثة على الأدب الانساني.. ولم يُغْرَيْنَ بتكريم ولا بدعوة من الغريب ولم يَنْسَقْنَ كالفراش وراء بريق العالمية، ولذلك لم ينخرطن بأدبهن في موجة الميوعة ولم يعرين الكلمة، ولم يتساهلن فيها بدعوى الحرية في الأدب، ولم يخدشن الحياء بحجة الاحتفاء بمفاتن الجسد ولم يتحملن وزر إشاعة الفجور في الأجيال. هؤلاء الأديبات آمَنَّ دائما بمسؤولية الكلمة التي يحاسب المرء عليها يوم يلقى ربه، وأقلها أن الكلمة الخبيثة تهوي بصاحبها في قعر جهنم سبعين خريفا… لذلك ظللن في أدبهن منشغلات بما ينفع الناس وما يبني المجتمع… وما يُوَثِّقُ عُرى الإنسانية بعيدا عن التطرف والتعصب، لأنهن ببساطة وصدق يستمددن معانيهن من قيم الإسلام السمح ويغمسن أقلامهن في مداد الخير، ويدركن دائما أن الزبد يذهب جفاء ويبقى ما ينفع الناس.

توفي أحد الأدباء قبل سنوات، فسمعت من يقول : (ألا كَمْ يلزم هذا من مواقف الذلة والمسكنة والفزع بين يدي ربه الرحيم وهو يحاسَب لأجل إصدار واحد، فما بالكم بإصدارات، بعد أن عَرَّى بقلمه الأجساد وأبدى السوءات واستثار الغرائز؟ لقد ذهب إلى حيث تنتهي الأضواء والمنابر والتصفيقات والفنادق الفارهة والمآدب الباذخة).

فلنعتبر إنه التعقب الحقيقي الذي يجب أن يحسب له الأديب ألف حساب وقد صدق الشاعر القائل :

وما من كاتب إلا سيفنى

ويُبقي الدهرُ ما كتبت يداهُ

فلا تكتب بكفك غيرَ شيء

يَسُرُّكَ يوم القيامة أن تراهُ

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>