وقفات – من نوادر مراقبة التأليف المدرسي: مراقب يحتاج إلى من يراقبه


… تردد الرجل قليلا قبل أن يكمل حديثا سابقا وقد بدت على محياه علامات التحرج  والحياء، ثم أردف : “وهكذا … فقد عملت في أغلب أسلاك التعليم وظل من أمتع اشتغالاتي البحث عن مكنون اللغة العربية ونوادرها وطرائقها المعجزة ودلالاتها الغنية..وكنت في كل ذلك أرضي رغبتين في نفسي، رغبة في المعرفة حد النهم ورغبة في تزويد تلاميذي بأجمل ما في هذه اللغة من أسرار وكنوز. ثم ساقني القدر الجميل على انشغالاتي المتعددة إلى أن أدخل ميدان التأليف المدرسي… فقلت في نفسي لعله باب أوظف فيه معلومات سابقة وأكتسب منه تجربة حية…” سكت الرجل قليلا ثم أضاف : ” على أن المقام لا يسع لأن أحكي عن العقبات الكأداء والمواقف النكراء التي يمر بها أي فريق تأليف، لجمع المادة وتنسيقها وتبويبها وملاءمتها لمستوى المتعلم وتفعيلها… حتى لكأن الحياة تتبدل غير الحياة والأرض تتبدل غير الأرض بما يجده هؤلاء المؤلفون من مشقة وما يفرغونه من جهد، وما يقاسونه من إجهاد وضنك. ثم يأتي الانتظار الطويل والتسويف بعد أن يكون أي فريق قد أدخل نفسه في موقف المقارنة والتقويم ويبقى السؤال الكبير عالقا عن أمور مثل المصداقية والبعد عن الحسابات والتوجهات الإيديولوجية…وقد كنت في غنى عن ذلك. وإذا تركت التقرير الوزاري الذي قد يقوّم عمل المؤلفين وهو تقرير يبدو في كثير من أحواله محتاجا إلى مناقشة ورد ولكن تناقش من؟..وتبرر عملك لمن؟ إذا تركتَ هذا التقرير وتفحصتَ نسخة المؤلَّـف المدرسي الذي تتقدم به والذي لا شك أنه قطع أشواطا بين أيدي المراقبين قبل أن ترده إليك وزارة التعليم فستستوقفك إشارات وعلامات وتعليقات مقتضبة تدعو إلى الاستغراب. فإذا قلت- في سؤال المتعلم : “لخص النص في فقرة لا تتعدى خمسة أسطر”كتب المراقب (وهل هذا ممكن؟) ممكن جدا يا سيدي- وما مهمة الأستاذ داخل الصف إلا أن يعلم تلميذه الإيجاز في موضعه والتوسع في موضعه؟ وإذا قلت للمتعلم “اكتب أقصوصة في موضوع كذا” كتب المراقب : ومتى تعلم كتابة القصة؟ أنا الآن أعلمه كتابة القصة يا حضرة المراقب أليس الإنسان مخلوقا قاصا بطبعه يقص بالسليقة والأستاذ يشتغل على المواد الأولية التي توجد بالفطرة لدى التلميذ فيشكلها كما يريد والبارع من الأساتذة يعلم تلميذه القص والسرد والخطاب والحجاج والمنطق ويفتح ذوقه على التصوير الأدبي الجميل والتناغم الموسيقي في التركيب… وإذا لم تكن البدايات في الصفوف الأولى والعود ما زال غضا والزهرة ما برحت فتية فكيف ومتى يستقيم العود وتفوح الزهرة بالشذا؟

إلا أن أغرب هذه التعليقات وأدعاها إلى الضحك والحسرة والندم ندامة الكسعي على دخول معترك التأليف أن أجد نفسي أمام مراقب يحتاج إلى من يراقبه؟ :

الفعل (اعتلى) و(استنتج) أحدهما مزيد بالهمزة والتاء والثاني مزيد بالهمزة والسين والتاء…

يضع المراقب الهمزة داخل دائرة ويثبت في الهامش : (ألف) وهكذا تصبح الهمزة في (انجلى) ألفا. وكأني بالمراقب قد ضرب بعرض الحائط جميع الكتب المدرسية المؤلفة  والمقررة في اللغة العربية قديمها وحديثها وجميع تصانيف النحو والصرف ليأتي بآخر طُرفة من طُرف الزمان ولتصبح الألف حرف زيادة في أول الفعل أليس ما في هذه الأفعال همزة ويصطلح عليها كذلك عند زيادتها كما هي الزيادة في( أَسْنَدَ) وعن همزة الوصل التي هي أحد نوعي الزيادة يقول ابن مالك رحمه الله في ألفيته :

الوصل همز سابق لا يثبت

إلا إذا ابتدى به كاستئبثوا

وهو لفعل ماض احتوى وعلى

أكثر من أربعة نحو انجلى

والأمر والمصدر منه وكذا

أمر الثلاثي كاخش وامض وانقذا

(إلى آخر المنظومة…)

ولعل الفرق واضح بين همزة الوصل التي تثبت في أولالكلام (وتسقط في درجه) أو همزة القطع الزائدة في أكرم وأسلم وأعلم.

وبين الألف الذي هو حرف مد ساكن له خصائص كثيرة وقد يكون في بعض الأحوال حرفا زائدا أو منقلبا عن الأصل  أو مجهول الأصل ومع الفعل لا يزاد في أوله وإنما في وسطه مثل : كَـاتَبَ- وتسابَقَ.

ثم ابتلع الرجل ريقه كمن يحس بمرارة وندم وأضاف : “قد يبدو هذا الأمر غريبا وبسيطا ولكنه مؤسف جدا لأن بعض الأمور قد توكل إلى غير أهلها ولا توضع في نصابها، وهو مؤشر خطير على تدن كبير في مستوى ضبط اللغة العربية. فإذا كان مثل هذا المراقب يراقب المؤلفات المدرسية في مختلف فروع المعرفة فأي مصداقية تبقى؟ وهل يبقى للمرء إلا أن يسلم بالجهل إذا رآه فاشيا ورحم الله أبا العلاء المعري القائل :

ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا

تجاهلت حتى ظن أني جاهل

وابتسم الرجل وقد علت وجهه الوقور مسحة رضى وتسليم لقضاء الله وقال : ما أحوج اللغة العربية إلى من يضع بنودا تحفظ حقوقها من العابثين والمتطاولين والمتسلطين.

كما تسطر لحفظ حقوق الإنسان- لو حفظت- أليست اللغة العربية كيان الإنسان المسلم ولغة القرآن؟

وضحك الرجل متندرا : “أيها المراقب البارع ألسنا في حاجة إلى محكمة تفصل بين همزتنا وألفك؟”.

 ذ. أمينة المريني

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>