توسمات جارحة – تعديل النفوس قبل النصوص


لا شك أن المغرب من البلدان الإسلامية التي تعتز بانتمائها الإسلامي وبتشبثها بعقيدتها، بغض النظر عما ران عليها من تراجع في مستوى التطبيق العملي لهذه العقيدة، والانفتاح في الوقت نفسه على العصر وتطوره، وتفعيل آليات الاجتهاد لتلائم تغيراته، دون المساس بالثوابت والمحافظة عليها. ولا أدل على ذلك من  تشبث المغاربة برمزية إمارة المؤمنين المتمثلة في جلالة الملك، التي تقطع الطريق عن أي تجاوز للثوابت وتحث على مواكبة التطور والعلم والتقدم. وهذا ما لمسناه عمليا في نزع فتيل الاضطراب والفرقة والاحتكام إلى المرجعية الإسلامية في إصلاح المدونة. فبعد مخاض عسير، ولد مشروع مدونة الأسرة الذي لا شك يحمل في طياته من الإيجابيات ما يجعلنا نأمل في تجاوز بعض المضامين التي تحتاج إلى إصلاح وتغيير ينسجم مع عقيدتنا وهويتنا الدينية والوطنية.وربما كان من الدروس المستخلصة منها هي التأكيد على إسلامية المغرب وعدم التهاون في مقدساته وثوابته، وما دون ذلك رهين بالتغيير والخضوع للاجتهاد. ومنها أيضا تعلم الارتفاع إلى مستوى الحوار وأدب الاختلاف، لأن الاختلاف في وجهات النظر أمر طبيعي، لكن إصلاح المدونة قدم لنا درسا في تحويل الاختلاف إلى مساهمات مخلصة تدمج كافة الطاقات الوطنية التي لا تريد سوى تنمية البلاد ورفعتها وعزتها في البحث عن نقط الالتقاء لتفعيل التغيير  الملائم لكل فئات المجتمع. لكن ربما كان أهم درس نستخلصه من إصلاح المدونة هو أن إصلاح النصوص لا يغني عن إصلاح النفوس. بل إن المطلوب أولا إصلاح النفوس التي تريد تطبيق النصوص. لأنه مهما وُضعت من قوانين وسُنت من تشريعات، إذا لم يصاحبها إصلاح يمس جوهر الإنسان وأخلاقياته، فإنها تبقى حبرا على ورق، أو يمكن أن تُطبق بشكل تعسفي على هذا الجانب أوذاك. لا ينكر التغيير والتطور إلا متخلف أو جاهل، لكننا نتوق أولا إلى تغيير العقليات التي يمكن أن تدفع بالمجتمع إلى الأمام وليس إلى الهاوية، إننا في أمس الحاجة إلى تغيير سلوكياتنا الفاسدة التي أوصلت الأمة إلى التخلف والانحطاط إلى سلوكيات منضبطة بشرع الله، نحتاج إلى انقلاب في سلوكياتنا وممارساتنا اليومية يطهر عاداتنا وتقاليدنا، ويرتفع بها إلى مستوى الإنسان الذي كرمه الله تعالى. إن هذا الواقع الذي وصلت إليه الأسرة اليوم في مجتمعات تنتسب إلى الإسلام يحتاج إلى تضافر الجهود من أجل تفعيل مجموعة من القضايا الجذرية والمصيرية، ابتداء من معرفة الإنسان المسلم لوظيفة وجوده على الأرض ومسؤولياته الإنسانية والاجتماعية، وتحمل هذه المسؤوليات، إلى الانضباط بالمعايير الإسلامية في اختيار شريك الحياة، وإقامة صرح الزواج على دعائم السكن والمودة والرحمة، مرورا بالحرص على البناء لا الهدم في كل إصلاحاتنا، آنذاك يمكن أن تؤتي النصوص الاجتهادية أكلها بإذن ربها.

د. أم سلمى

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>