من دلالات وأسس التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر(*)


من أسئلة التجديد :

ألا يكفي في التجديد الرجوع للأصول الأولى للإسلام؟

القرآن المجيد والسنة المبينة، وتجاوز كل  الأشكال وصور الموروث الثقافي الذي حجب الرؤية والاستزادة المباشرة من تلك الأصول إلا عبر وسائط وقنوات؟.

ويتفرع عن هذا السؤال سؤال آخرهو: هل يمكن فعلا فهم تلك الأصول باستغناء كلي عن الوسائط؟ وإذا جاز اعتبارها استئناسا فكيف يمكن أن تساهم في عملية الفهم والاستمداد    دون أن تحجب دلالات الوحي الكلية المستوعبة للزمان والمكان؟.

السؤال الثاني: هل يقتضي التجديد بالضرورة الخوض في الماضي الموروث تصحيحا وتصويبا؟ ويتفرع عنه سؤال متمم: بأي منهج يتم التصحيح والتصويب؟ هل هو منهاج تراثي يستمد أسسه من التراث ذاته أم من منهج الوحي بعد إدراكه وفهمه؟

لا يجادل أحد من المسلمين في كون الوحي حافل بالغيب وإن القرآن الكريم دليل الأمة إلى ربها علما وعملا، لكن تحويل هده القناعة المبدئية إ لى رؤى وتصورات ومناهج ووسائل عملية تعكس فعلا كون الكتاب هاديا مرشدا لم تتبلور في تراثنا ولا في فكرنا المعاصر بما يكفي، فلم تستثمر بعد ولم تكتشف كثير من الآيات والعلامات الهادية علما وعملا في هذا الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلق لكثرة قراءته بما في ذلك تلك التي قيل إنها ليست أحكاما والتي قيل إنها منسوخة والتي تحمل من الدلالة ما تحمل.

أما من حيث العلم مثلا فإن جبهة بكاملها اسمها العلوم الكونية قد تعطلت في فكر الأمة ولم تستثمر فيها آيات الآفاق المرشدة والهادية من جهة، والمحققة لقوة واختبار الأمة المادي من جهة ثانية، الأمر الذي جعلها عرضة للنهب والسلب من كل حدب وصوب. ثم جبهة أخرى إسمها العلوم الإنسانية قد تعطلت بدورها فلم تسترشد بآيات الأنفس الأمر الذي جعل هذه العلوم تؤطر فلسفيا ومعرفيا الإنسان فيالخيار المادي والعلماني الذي تأسس وهيمن منذ عصر النهضة الأوروبي ويعيش حاليا أرقى مراحل ازدهاره عبر السيولة الحضارية العلمانية الشاملة التي لم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أفسدتها وحرفتها: ذوقا وفنا وأكلا و شربا وعمرانا واجتماعا. مما كان  في الإمكان أن يبنى  بناءا معرفيا إسلاميا.

لكن جبهة العلوم الإسلامية ذاتها لم تعرف إطرادا في النمو واستئنافا في العمل والبناء بما يحقق التراكم في الزمن الممتد وليس الدائري القائم على أساس التكرار والذي جعل الأمة تعيش قرونا من الانشقاق والجمود الفكري، والاستعالة العقلية، ولم تفلح في كسر طوقها جهود وأصوات تجديدية ضخمة كالتي قام بها حجة الإسلام الإمام الغزالي وابن تيمية وابن خلدون والشوكاني إلى صرخات الأفغاني الحديثة.

وإن ظاهرة التقليد في التراث شبيهة بظاهرة نزع القداسة عن الوحي، وتلك الظاهرتين مختلفتين إما في الزمان باختلاف الزمان التاريخي، وإما في المكان في الاغتراب المعاصر، والمطلوب التحرر من النزعتين معا، فكما لا يمكن القطع مع الماضي لا يمكن تحويل هذا الماضي التاريخي إلى مطلق يأخذ صفات وحي الله الخالد.

إن الفكرالاسلامي التجديدي المعاصر مطالب برد الأمور إلى نصابها وبتحقيق التجديد في تفاعل مع الوحي {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم}، وتجاوز دروب وتقليد الماضي وجمود الحاضر، منطلقاً في ذلك من الأصل الخالد متمثلا آياته الكونية والشرعية، فلا يمكن أن يكون فعل الفقه في الدين الذي هو فهم عن الله فيما يقرأ -الوحي- بمعزل عن الفهم عن الله فيما خلق، كما لا يمكن أن يكون الإسلام بمعزل عن الواقع وماضي الإنسان وحاضره وإلا كانت المعرفة المنتجة كما نجده الآن في العلوم الإسلامية نظرية تاريخية تجريدية.

يكون التجديد بهذا منطلق من أساس الوحي، مجدد النظر في آلات ووسائل فهمه واستكشاف آياته ودلالاته المختلفة مستفيدا من المحطات التجديدية في تاريخ الأمة، الوحي أساس الشمولية والاستيعاب والمعرفة العقلية وبناء الفكر والثقافة، ومنع ظواهر الغلو في جانب على حساب جوانب أخرى بتحكيم أصل ومنهج الوسطية والاعتدال، والمعرفة الواقعية المساعدة على الفهم والمحددة لأشكال التنزيل وتحقيق التدين.

التجديد إمكان ذاتي لا خارجي

تبين مما تقدم أن الأساس الأول للتجديد هو الوحي ذاته، بمعنى آخر أن هذا الوحي يقدم وسائل تجديد الدين وتطويره باعتباره نسقا متكاملا ومنظومة شاملة، ولهذا كان الاجتهاد أصلا من أصول الدين، وكان التجديد أصلا من أصول الدين بنصب مصادر هذا الدين عليه، وليس بإضافة خارجية عن هذه المصادر.

يتم الاعتراض والالتفاف حول هذه الحقيقة المقررة من بعض من يزعمون أنهم يجددون داخل النسق وليس خارجه بأن الانفتاح والاستفادة من الأمم الأخرى ضرورة عصرية لا مفر منها. وفات هؤلاء أن الانفتاح كذلك أصيل في الدين، فهو رسالة عالمية للناس كافة، ومنذ تأسيسه الأول بعث صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام كتبه ورسائله إلى الآفاق، وامتدت منذ العقود الأولى فتوحات جابت العالم شرقا وغربا شمالا وجنوبا فاستوعب هذا الدين في منظومته التوحيدية تشكلات اجتماعية وثقافية وحضارية مختلفة لم يكن بإمكان أية حضارة قديمة أو حديثة أن تحقق ما حققته على أساس الدعوة والإقناع، لا القصر والإكراه كما هو حال الحركات الاستعمارية الحديثة والمعاصرة.

لكنني أطرح السؤال الذي ينبغي أن نحدد النظر فيه: نحن نتحدث عن التجديد لماذا ضرورة أصل العالمية في هذا الدين ومعه أصل الانفتاح على الخبرات البشرية؟ ومعلوم أن الرسول  استفاد من خبرات صحابة أعاجم أسلموا وكذلك فعل الخلفاء، لكن في عصر التقليد أصبح الإسلام وكأنه شأن خاص بالعرب وفي أحسن الأحوال المسلمين الذين أسلموا من بعد، وبينهم وبينه – فيالعصر الحاضر- من مشكلات التنزيل المحلي ما يجعل التفكير في عالميته مسألة فرعية وليست أصلية، جزئية وليست كلية.

لكن عالم الأفكار كما يقرر فيلسوف الحضارة المعاصرة مالك بن نبي رحمه الله، وخاصة إذا كان عالم الأفكار هذا منبثقا عن رسالة خالدة تملك من القوة والخصائص الدائمة ما يجعلها قادرة على الاستمرار واستيعاب الزمان والمكان مهما تحققت مقدرات ومقومات الأمة الحاملة لها، ومهما أصيبت في كيانها المادي، ولهذا توالت في أزمنة متعددة أزمات وبقيت الأمة متحدية، وهذا دليل على صدق خلود وقوة مبادئ الرسالة في ظل التحديات القائمة، إن الأفكار الذاتية تستطيع أن تحمي الأمة بها ذاتها، وخاصة إذا تعلق الأمر بالوحي ذو الصفة الخالدة والمطلقة، فإذن لن تنهار ولو انهارت النظم المادية والحضارية في الأمة.

أعتقد أن الآن أكثر من أي وقت مضى على الفكر التجديدي المعاصر في الأمة أن يؤصل لهذا القصدوأن ينتج معرفة وعلوما تجعله قادرا على استيعاب المشاكل والتحديات المعاصرة.

لابد في هذا من إعادة بناء مفاهيم مساعدة تحمل من حيث الانتشار الصفة الكونية ذاتها لكنها متميزة بخصوصيات ثقافية غربية في العصر الحالي، تستند إلى فلسفة مادية علمانية قائمة على تفكيك الكائن البشري وجعله مرجع نزواته.

لابد من إعادة بناء ترشيدية وتصحيحية من خلال رسالة تبشر بخلاص الإنسان الدنيوي والأخروي معا، لتحقيق مبادئ الحرية والعدل والحقوق والتعارف والتدافع في سياق ما يعرف الآن بحوار الأديان والحضارات الثقافي.

إن تجديد الأسس والمقومات الموجودة في النسق الثقافي الإسلامي واستحداث أخرى  من الداخل مرتبطة بكليات ومقاصد مقدم على أشكال النقل والاستعارة الحرفية لمذاهب وعلوم تنتمي إلى أنساق ثقافية ومعرفية أخرى دون التحقق من درجة النفع والضرر فيها، ومن غير نقد ومراجعة وتمحيص وتكييف، وهذا ما أفضى  بكثير من القراءات وإن زعمت العمل داخل النسق إلى أن تكون خارجه، علما أنها عمدت إلى إلغاء ثوابت وأصول قطعية في الدين تحت دعاوى  وتبريرات مختلفة، علما بأن مساحة الظن في الإسلام أوسع من مساحة القطع وأن دلالاته أعمق من أن يستوعبها فكر بشري، وأنه دعوة إلى التفكر والتدبر والنظر وارتياد الآفاق والأنفس وبناء العلوم والمعارف.

قراءات على كل حال اتخذت نماذج منها فهي موجودة داخله  – أي النسق الإسلامي- مجموعة من القراءات التي نحت إلى منحى التجديد في الدين على كل حال، وهي تزعم أنها في داخل نسق الفكر الإسلامي وليس خارجه، وتستعير من المناهج المستحدثة في العلوم الإنسانية بل وحتى أحيانا في العلوم الكونية ما تسقطه بشكل عشوائي على هاته العلوم الإسلامية بدعوى تجديدها تحت دعوى إعادة تأصيل الأصول من جديد أو تحت دعوى تشييد عصر تدوين جديد، أو تحت دعوى بناء لغة جديدة مواكبة لمقتضيات العصر عوض اللغة الدينية القديمة إلى غير ذلك، يعني نماذج لمجموعة باحثين: هشام حفيظ، حسن حنفي، محمد أركون، على كل حال هذه دعاوى  وإن زعمت أنها اشتغلت داخل مساحة الفكر الإسلامي، نجد في الواقع أنها ميدانيا تشتغل خارج هذه المساحة ولم تستثمر الإمكانات التجديدية الذاتية والمنتمية للنسق الثقافي الإسلامي

——

أصل المقال محاضرة في ندوة تجديد الفكر الإسلامي بجامعة المولى اسماعيل بمكناس.

> أعدها للنشر : محمد البويسفي

و عبد الحميد السراوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>