الإسـلام رسـالة ربـانية وليس إيديولوجية بشرية تضبطها الأوهام


لقد كثر القيل والقال حول مفهوم الإسلام و كأنه إيديولوجية بشرية تخضع للزمان وللمكان وللظروف والأحوال ولا سيما من الذين لا يعلمون عن الإسلام إلا الاسم ولا يعرفون من القرآن والسنة إلا الرسم، فترى البعض يطيل لحيته ويظن أن ذلك يغنيه عن العمل والتحصيل فيصبح داعيا مفتيا فقيها نحريرا، وترى الآخر لا صلة له بهذا الدين ولا بكتابه وينادي أن كل شيء يجب أن يخضع للاجتهاد من غير أن يسأل نفسه عن معنى الاجتهاد وشروط المجتهد… لكن الإسلام لا يقر لهذا ولا لذاك.

والكل يريد أن يُفَهِّم الدين للأمة على مزاجه وما تصوره له أهواؤه المريضة فالأول ينزوي في زاوية بعض النصوص التي لا يعرف لها معنى فيكفر هذا ويبدع ذاك من غير حجة قاطعة أو برهان ساطع، والآخر ينطلق من حقده الدفين لهذا الدين ويحاول أن يخضعه لما جادت به المدنية الحديثة من مجون وأوهام وتفسخ وفجور ظنا منه بأنه أعلم من خالق الوجود وأن إديولوجياته المهترئة سواء منها الشرقية أو الغربية قادرة على حل المشاكل وإعطاء مراسم التقدم والحضارة والغريب أنهم جربوا ذلك لعدة عقود ورأوا بأم أعينهم ما جر ذلك على الأمة من ويلات وهزائم وكوارث مدمرة وبالرغم من ذلك يصرخون ويطبلون ويزمرون من غير حياء ولا استحياء نحن لها ونحن أحق بها وأهلها مستغلين جهل الأمة وعدم وعيها بالمؤامرة وما يدبر لها في الداخل والخارج .

نعم هذا وذاك دفعني إلى إلقاء نظرة خاطفة حول مفهوم هذه الرسالة الربانية العالمية التي تعد المفتاح الوحيد لسعادة البشرية ولو قال الغير ما قال .

 رســالة الإســلام ربانيــــة شاملــة:

إن رسالة الإسلام رسالة ربانية شاملة شمولا يستغرق الإنسان وظيفةومصيرا والحياة دنيا وأخرى والكون بما فيه ومن فيه، تعتني بالفرد كما تعتني بالجماعة، تنظم جميع العلاقات التي تربط الإنسان بغيره فهي عبادة في المسجد كما هي عبادة في الحقل والمعمل والمصنع والمحكمة والإدارة والمدرسة والعيادة والوزارة والبرلمان و… وكما تعتني بالجسد تعتني بالروح وكما تعتني بالجانب الفكري التنظيري تعتني بالجانب العملي التطبيقي وبتوازن منقطع النظير وعلى جميع الأصعدة الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية و… إلخ

  للرسالـة الإسلامية منهجية خاصة:

لكن العمل داخل الرسالة الإسلامية لا يتم إلا بمنهجية ربانية ترسم الطريق وتحدد المعالم وتنير الدروب والمسالك وتواجه مشكلات الدعوة والواقع وتحرك الأحداث وتنظم الحياة بما يضمن المحتوى الرسالي وتحقق أهدافها وغايتها في الخلق كما أراد الله لها لا كما أرادت الأهواء البشرية و تنطلق من منطلقات منها:

 العقيــدة الصحيحة:

إن العقيدة الصحيحة هي القناعة القلبية والعقلية الجازمة المنسجمة مع أركان الإسلام وركائز الإيمان وما ينتج عن ذلك من آثار تساهم في بناء الشخصية الإسلامية الحقة في نطاقها التعبدي الفردي والجماعي ذلك التعبد الذي ينبني على:

أ – تحقيق العبودية:

التي تعني أن الرب رب والعبد عبد ولا حق للعبد بأن يتصرف في ملك سيده إلا بإذنه ورضاه وإذنه :  شرعه ورضاه :  تطبيقه كما أراده. يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا} (النساء).

ب – تحرير العبودية:

التي تعني إخلاصها لله وحده دون سواه بأن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفرمع رفع شعار الخلود الذي أمر الله به رسوله الكريم في قوله: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} ( الأنعام).

ومن تحقيق العبودية وتحريرها نعلم أن العقيدة في المنهج الرباني هي التي ترسم المنهج الكامل للحياة وتضع الضوابط لكل شيء وتلزم الإنسان الرسالي بممارسة دوره الكامل فيحمل الأمانة العظمى ويلتزم بها تصورا وسلوكا ونظاما وأخلاقا ومسارا وهدفا وغاية في انسجام تام مع الكون والموجودات المختلفة الخاضعة لله تعالى يقول تعالى: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون} (آل عمران)

ومن هنا يظهر أن رسالة الإسلام ليست رسالة أوهام أو رسالة خرافات أو رسالة انزواء وانكماش أو… وإنما هي:

  • رسالـة علم و عمل:

إن رسالة الإسلام رسالة علم وعمل رسالة بذل وعطاء وجهد ومجاهدة وبالعلم المبني على العمل تبلغ الغايات وتحقق الأهداف، ولا سيما إذا اختير لذلك الوسائل الناجعة المنسجمة مع المنهجية الإسلامية في تنزيل الأفكار والمبادئ على الواقع المعيش بحكمة وروية وتدبر، فتمنح الإنسان الرسالي خصوبة حركية تفجر فيه الطاقات الكامنة وتحولها إلى حركة دائبة لا تهدأ وإنتاج إيجابي لا يفتر وإبداع متجدد لا ينقطع بعيدا كل البعد عن الركود والجمود والتقوقع في دائرة ال ” أنا ” الضيقة والإنكفاء على الذات والدوران في فلك المشاغل الخاصة التي تنآى بالإنسان الرسالي عن مهمته ورسالته في الحياة لأن الأصل في رجال الرسالة أن يمارسوا أعمالهم في جو متواصل النشاطات متلاحق المبادرات متتابع الخطوات في نظام وانتظام لاختزال الوقت واستغلال الإمكانيات المتاحة مهما قلت على اعتبار أن المبدأ لا يتحرك في صورته الواقعية وممارساته العملية إلا من خلال الشخصية الرسالية التي تعد نفسها لحمل الأمانة العظمى مع بذل الجهود المضنية لتهييء الطلائع الرسالية والصفوة الخاصة التي يقتدى بها في الخير والنفع العام والبذل والعطاء والتضحية من أجل التشييد والبناء في إطار ، لأن الاعتصام بحبل الله كتابا وسنة يجعل الأمة الإسلامية الرائدة المتمسكة بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها تنسى نفسها في خدمة غيرها ولا تقتصر في همها واهتمامها على فئة دون فئة ولا على جنس دون جنس ولا على جانب في الحياة دون جانب ولا على مكان دون مكان ولا على زمان دون زمان و إنما يكون همها واهتمامها شاملا يستغرق الإنسان والكون والحياة والدنيا والآخرة وتعمل جاهدة من أجل إنقاذ البشرية من مخالب الطيور الجارحة وأنياب الحيوانات المفترسة مع الحرص كل الحرص على رد تلك الجسدية الربانية التي فقدتها الأمة في مراحل ضياعها بعوامل داخلية وخارجية ذاتية وغيرية لأن كل ما في هذه الرسالة يدعو إلى الوحدة :

وحدة الصف ووحدة المنطلق ووحدة المسير ووحدة المنهج ووحدة الهدف والغاية يقول تعالى :

{إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء)

إذا من منطلق الاعتصام بحبل الله في إطار المنهجية الربانية نرى أن :

 الإيمـان بالأصول لا يكفي:

إن المتربصين الذين ظنوا أن الفرصة قد حانت للإفصاح عن مكنون صدورهم وظنوا أن الأمة قد ودعت الحياة وفي استطاعتهم الآن أن يظهروا بمظهر الإسلام الجديد -  حسب تصورهم المريض- الذي لا يتجاوز الشعارات رافعين عقيرتهم بشعار لا معنى له  ( كلنا مسلمون ) فجاء الإسلام ليقول للمغرض أو للجاهل أو للببغاوي أن الإيمان بالأصول لا يكفي إلا إذا كان متضمنا للاعتقاد بالجنان والنطق باللسان والعمل بالأركان ومقترنا بالتعهدات الرسالية على مستوى التصور والسلوك والالتزام ومستوى الفعالية في كل ميدان ومستوى الأهداف والغايات يقول تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} (التوبة).

إن التعهدات التي ترسمها الآيات الكريمة يصعب الخوض فيها لما لها من امتدادات في أعماق المجتمع الرسالي لذا سأحاول الإشارة إلى بعض الركائز التي لابد منها في تكوين الإنسان الرسالي الذي ينأى عن التراهات التي يشتغل بها غيره ويبني شخصيته الربانية على:

1- الإيمان المقرون بالعمل الصالح:

إن الإيمان هو السمة الأساسية في التعهدات الرسالية لكن لا تتم فعاليته إلا بالعمل الصالح بمعنى أنه لا قيمة للإيمان بدون عمل صالح ولا قيمة للعمل مهما كان صالحا إذا لم يرتكز على العقيدة الربانية الصحيحة السليمة الفاعلة التي توحد المؤمنين في النوايا والمنطلقات ويأتي العمل الصالح ليجمعهم في المسير ويوحد صفهم على الطريق وبهما معا يصاغ الإنسان الذي ترصو به قواعد وقيم الحضارة الربانية وتتحقق الأعمال التغييرية في جميع مجالات الحياة الإنسانية اقتداء بالرسول الأعظم الذي يعد المثل الأعلى في الالتزام والانسجام التام بينما يدعو إليه ويعمله في خاصة نفسه وفي كل علاقاته الواسعة بالمجتمع والكون والحياة وبمنهجية عملية واقعية تربوية متكاملة متوازية.

2- الأخـوة الإيمـانية:

إن الأخوة الإيمانية الصادقة القائمة على العقيدة الصحيحة المتجردة عن الهوى والأنانية البعيدة كل البعد عن العنصرية الجنسية والنعرات القبلية والتشيعات الحزبية والمفاهيم الجاهلية كالوطنية والقومية والشعوبية والاشتراكية واللبرالية… صبغتها الحب في الله  “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به” . ونسيجها الوحدة والتآلف يقول تعالى: {لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} (الأنفال). ومعطياتها التعاون على البر والتقوى والنصح والتناصح في جميع المجالات، من أجل تبليغ شرع الله إلى خلق الله, مع الإخلاص والصدق في القول والعمل والجهاد والمجاهدة وكما قيل: “أفضل الأعمال استقامة الدين” وكيف يستقيم من لم يستقم دينه ؟ “.

إن تطبيق مقتضيات الإيمان والعمل الصالح في إطار الاعتصام بحبل الله والأخوة في الله المبنية على المحبة فيه تحتاج إلى :

3- الحزم والعــزم وقوة الإرادة:

إن الحزم والعزم وقوة الإرادة من الأمور الأساسية التي تبنى عليها منهجية هذه الرسالة:  قوة في الإيمان وفعالية في الحركة وصلابة في المشاهد والمواقف وتصميما في الإرادة الحازمة والبذل والعطاء والتضحية في الملمات والشدائد اقتداء بالحبيب المصطفى في رحلته الطويلة انطلاقا من الأمر بالقراءة والعناية الفائقة بالعلم في سورة “إقرأ”. والإعداد الشخصي والتكوين الرباني للشخصية الرسالية التي تحمل القول الثقيل في سورة “المزمل” والإعداد الدعوي للانطلاقة الكبرى جهادا ومجاهدة من أجل تبليغ رسالة الله إلى عباد الله بتلك المواصفات العالية في سورة “المدثر” .

وتستمر المسيرة المباركة تفتح القلوب وتنصر المظلوم وتضرب على يد الظالم وتخرج الناس كل الناس من الظلمات والتيه والضياع إلى نور الحق والإيمان والهداية إلى أقوم طريق حتى كمل الدين وتمت النعمة وبذلك

يكون قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة فتأتيه البشرى من ربه بقرب لقائه في سورة “النصر” وتنتهي الرحلة الجهادية المستمرة الخالدة بقوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون…} ( البقرة).

نعم هكذا مرت حياة الحبيب بين الصبر والشكر والجهد والمجاهدة والجهاد في كل ميدان يصنع أمة القرآن  أمة القول والعمل أمة المبادئ والقيم أمة بنت حضارة إنسانية بكل المواصفات الإنسانية يشهد بها العدو قبل الصديق . نعم يبني أمة الرسالة على الهمة العالية يكدحون بالليل والنهار يستهينون بالصعاب ويصنعون الرجال وينشرون الخير في كل مكان يقول تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ..} (آل عمران).

يأمرون بالخير وينشرونه بين الخلق ويحاربون الشر في كل مكان مهما انتفش الباطل وانتفخ لعلمهم بأن للباطل جولة وللحق دولة إلى يوم القيامة .

لكن وللأسف الشديد خلف من بعدهم خلف أصيبوا بالشلل الكلي في كل مجال وأصبحوا ذيلا لأعداء الإسلام وأصبحوا كل يوم يخرجون علينا بفتاوى مائعة في جرائدهم ومجلاتهم ووسائل إعلامهم الكثيرة والمتعددة يريدون إخضاع شرع الله إلى أهوائهم وتصوراتهم الرعناء من غير أن يعلموا بأن شرع الله فوق الكل وأنالكل يجب أن يأخذ مقاييسه منه قل شأنه أو كبر يقول تعالى: {والسماء رفعها ووضع الميزان أن لا تطغوا  في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} (الرحمن) ويقول أيضا: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}

ذ. علي علمي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>