كلمة السيد وزير التربية الوطنية والشباب


ألقى السيد الحبيب المالكي وزير التربية الوطنية والشباب كلمة قيمة في الجلسة الافتتاحية لليوم الدراسي الأول للتعليم الابتدائي الأصيل، وهذا نص الكلمة :

بسم الله الرحمن الرحيم

السادة العلماء الأجلاء

حضرات السيدات والسادة المحترمين،

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

لاشك أن تفكيرنا في تنظيم هذا اليوم الدراسي الأول للتعليم الأصيل يصادف أجمل الأيام وينعقد في أجمل حواضرنا وأعرقها وأكثرها التصاقا بالرمزية العلمية والروحية. ذلك أن يومنا الدراسي هذا يأتي في موعد مولد النبي الكريم ، ويأتي في وقت يبتهج فيه شعبنا مع عاهله جلالة الملك محمد السادس بمولود ازدانت به جنبات القصر العامر وتعززت به الأواصر والوشائج واكتملت به المسرة. وهي مسرة مضاعفة باختيار جلالة الملك أن يطلق على المولود السعيد اسم الأمير مولاي الحسن تيمنا باسم والده المغفور له الحسن الثاني، باني المغرب الحديث، ورجل الدولة الكبير الذي ألهم المغاربة قيم الأصالة والتحديث، وصان مقومات الهوية المغربية.

وبقدر ما جئنا إلى لقاء علمي تربوي تشغلنا أسئلته وقضاياه ونتسلح إزاءه- بدون شك- بالمعطيات والمقترحات الثرية، بقدر ما استجبنا لنداء التاريخ في فاس، لنداء الذاكرة التي تفيض بالكثير من تفاصيلها ووجوهها ووقائعها هذه المدينة  العريقة وجامعتها التاريخية العظيمة. وما كل ذلك إلا لنوفر لحوارنا فضاء يليق بأهمية الرسالة التي يؤديها التعليم الاصيل ضمن منظومتنا التربوية والتعليمية. ونحن فخورون بذلك ومعتزون به أيما اعتزاز. ولي اليقين بأنكم وبأننا جميعا ندرك أهمية هذا اللقاء، وما ينبغي أن يجري فيه من تطارح وتدارس، ومن آراء وأفكار، وكلها لن تكون -إن شاء الله- إلا مفصحة عن عزم قار ورغبة أكيدة في رسم النهج القويم لتعليمنا الأصيل، وذلك دون تراجع عن المكتسبات الإيجابية، ودون إسراف في المقترحات التي قد تعزل هذا التعليم أو تنأى به عن مكونات نظامنا التعليمي ونسيجه ودعائمه الكبرى التي أكدت عليها توجهات الميثاق الوطني للتربية  والتكوين.

ولست في حاجة ، ربما، لأذكربالأهمية التاريخية والثقافية والحضارية للتعليم المغربي الأصيل. ففي الكثير من أبحاث وأطاريح مؤرخينا المغاربة الكبار مايدل على هذه القيمة النوعية الفاعلة والمؤثرة في صنع التاريخ والحضارة وبناء الانسان المغربي. وذلك بالأخص منذ أن أصبح المغرب يلعب دورا أساسيا في توطيد دعائم الاسلام وصيانة اللغة العربية كأداة تعبير وتعليم وتربية وتثقيف في الجناح الغربي من العالم العربي والاسلا مي.

ونحن نعلم بأن النظام التعليمي عبر تاريخه بالمغرب لم يكن قبل فترة الحماية الأجنبية شيئا آخر غير ما درجنا على وصفه اليوم بالتعليم الأصيل- وهذه التسمية هي التي فضل المغفور له جلالة الملك الحسن  الثاني سنة 1973 أن يعوض بها عبارة (التعليم الأصلي) التي كانت سائدة من قبل- وبفضله كان التعليم منتشرا في جميع حواضر وقرى المغرب فتكلفت به الدولة ورعته هنا أو هناك، وساهمت فيه أو أشرفت عليه مباشرة القبائل و” الجماعات” والمشيخات، وكذا الأفراد من الذين أعطاهم الله من فضله، ولذلك، تم تعهد الفقهاء الذين كانوا يعلمون الناشئة القرآن الكريم والكتابة والحساب وبعض مبادئ اللغة العربية. وما كتبه مؤرخون وباحثون من أمثال المرحوم الفقيه محمد المنوني، والمرحوم المختار السوسي، والمرحوم عبد الله كنون، والمرحوم محمد حجي، والمؤرخ الأستاذ عبد الهادي التازي على سبيل المثال لا الحصر، يعد في هذا الباب مجالا للاطلاع والاستزادة لكل راغب في المزيد.

ونعلم أن التعليم الأصيل ظل متصالحا مع نفسه ومع سياقاته التاريخية والاجتماعية والثقافية. ولم يعرف لحظة تأزم ومواجهة إلا مع اجتياح القوات الاستعمارية لبلادنا وإقرار نظام الحماية الفرنسية سنة 1912. آنذاك، لم يفكر المستعمرون في الجانب العسكري والاقتصادي والسياسي فحسب، بل فكروا في الجانب الثقافي والتعليمي والتربوي، لأنهم كانوا يدركون جيدا أن السيطرة على الأرض لاتفي بالأغراض إن لم تتم السيطرة على الانسان.

ولذلك، فإن هؤلاء المغاربة الذين وجدهم قادة الاستعمار الأجنبي يقظين متوثبين على الإسلام والروح الوطنية الصادقة لم ينبثقوا من فراغ، وإنما من سنوات التراكم العلمي والتربوي، ومن جهود العلماء والمشايخ والفقهاء الذين صانوا للعقل سطوته وللروح كيانها ونقاءها وثباتها على المحجة البيضاء والموعظة الحسنة. ومن ثم راح الاستعمار يبذل جهده لتخريب الذات المغربية من داخلها. وما مخططات ضرب اللغة العربية التي اعتبروها “شبه ميتة”، وعزل الأمازيغية في إطار قانوني أثار الشبهة والاعتراض والرفض في حينه، بل وقبول اللهجة الدارجة كلغة ثانية بدلا من العربية الفصحى …، إلا تنفيذا لمشروع أربك نظامنا التعليمي ووضعه أمام سياق تاريخي جديد، وأمام وظائف مختلفة، بل أمام رسالة جهادية أخرى  هي تلك التي نهضت بها الحركة الوطنية بكل رموزها التاريخية والثقافية والسياسية، والتي خرج بعضها من داخل هذه المدينة العامرة، بل من داخل هذا الحرم العلمي والتربوي العريق الذي نلتقي فيه اليوم.

هكذا، كان التعليم الأصيل ومايزال إحدى السمات الراسخة التى  لازمت المجتمع المغربي منذ اعتناقه الاسلام. وكانت مؤسساته وعلى رأسها نواته الأولى ، جامعة القرويين، مركز إشعاع إسلامي وعلمي وحضاري طبقت سمعته الآفاق وانتشرت معارفه وعلومه عبر الشيوخ والعلماء والمتصوفة وكبار الرحالة.

غير أن هذا التعليم مر، خلال مساره الطويل، بمراحل وتحولات أملتها الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي اعترت المغرب عبر التاريخ. كما عرف التعليم الأصيل محاولات إصلاحية عديدة كانت ترمي إلى الرفع من قيمته وجودته ومردوديته الداخلية والخارجية، وجعله في مستوى  طموحات المجتمع المغربي، ويحتفظ التاريخ بسجلات وصفحات تخلد ما كان لهذا التعليم العريق من سابغ الفضل على المغرب والمغاربة منذ أنعم الله عليهم بنعمة الإسلام، دينا ومعرفة وحضارة.

حضرات السيدات والسادة،

إننا ندرك إذن القيمة التاريخية والحضارية الدينية والثقافية والتربوية لتعليمنا الأصيل، وينبغي أن ندرك ذلك دائما. ومع ذلك، لم تكن حال التعليم الأصيل هذا، بالرغم من المنجزات وا لتراكمات الإيجابية التي تحققت، مما يبعث على الاستكانة والرضى دائما، فقد تواصلت الأسئلة بخصوصه غداة حصول المغرب على استقلاله، وتواصل البحث عن آفاق جديدة، لتطويره وتحسين آدائه ومردوديته، وتوفير ما يتطلبه من موارد بشرية ومادية، وهو ما لم يكن ميسورا في جميع الأحوال والمراحل والظروف. ولذلك، أمكن تسجيل بعض من عدم الاستقرار في وتيرة نموه خلال الفترة ما بين 1957 و1971.

وكان الحرص الدؤوب الذي كان يسبغه جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله شخصيا على التعليم الأصيل، والعناية القصوى التي يوليها له صاحب الجلالة الملك محمد السادس، كا ن لهما عميق الأثر في سيرورة التعليم الأصيل. فقد انطلقت بوادر إصلا ح هذا التعليم منذ سنة 1973 فتشكلت لجنة خاصة لمراجعة برامج التعليم المزدوج والمعرب. وتم إرساء بنياته الأساسية وتجديد هياكله وموارده وشعبه -عموما- وتواصلت مشاريع توسيع خريطة مؤسساته ورفع أعداد تلاميذه في مختلف الأسلاك والتخصصات.

تعلمون، أيها السادة والسيدات، علماءنا الأجلاء، أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين يجسد الاستمرار الفعلي للعناية الرسمية والشعبية بالمنظومة التربوية والتكوينية التي يمثلها التعليم الأصيل. ويحدد الميثاق المكانة اللائقة لهذا التعليم، ضمن دعامته الرابعة الخاصة بإعادة الهيكلة وتنظيم أطوار التربية والتكوين، بل يخصص له المادة 88 بصريح العبارة، داعيا إلى تقويته وإغنائه وتطويره وإيجاد جسور له مع مؤسسات التعليم العام.

ونحن حريصون على ذلك أشد مايكون الحرص، نواكب ما يرسمه الميثاق حول ماينبغي للتعليم الأصيل أن يرتاده من آفاق، وما ينبغي أن يحققه من غايات وأهداف، وما ينبغي أن يسم به المواطن  المغربي من سمات الاستقامة والصلاح والتمكن من اللغة العربية، تعبيرا وكذا الانفتاح على  اللغات الأجنبية حتى لاتصبح مؤسسات التعليم الأصيل قاعات انتظار أو معازل حقيقية عن المحيط الخارجي، وعن العالم المعاصر.

وأظن أن رهاننا الأساس الذي ينبغي أن نناقشه بجرأة وبمسؤولية اليوم هو كيف نؤسس لجدلية فعلية نتخطى بها تلك الاشكاليات القديمة المزمنة القائمة في ثقافتنا وتعليمنا بين الأصالة والمعاصرة. فليس هناك مغربي واحد مازال بإمكانه أن يعيش على الأصالة وحدها بمعزل عن التحولات والتطورات العلمية التقنية المعاصرة والحديثة، وليس هناك- في المقابل- مغربي واحد يمكنه أن يرمي بنفسه في خضم المعاصرة المطلقة مفصولا عن جذوره وعن هويته وعن غلافه الحضاري والثقافي والمجتمعي.

ومن هنا ينبغي أن نفكر في المشترك الإيجابي الضروري بين التعليم الأصيل والتعليم العام، وأن نتوجه إلى توسيع هذا المشترك إلى أقصى ما يمكن وبدون تفريط في خصوصيات تعليمنا الأصيل أو مساس بكيانه وبوظائفه، على أن يكون الهدف البعيد هو بناء مدرسة مغربية موحدة تتصاهر فيها مجموع المكونات والأبعاد.

وإذا كانت وزارة التربية الوطنية والشباب، اتخذت المبادرة بتنظيم هذا اليوم الدراسي الأول الذي يتوج المرحلة الأولى  من أعمال اللجنة المشتركة المشكلة من مسؤولين من وزارة التربية الوطنية والشباب ومن ممثلين عن جمعيات العلماء، وبذلت وتبذل قصارى جهودها من أجل توفير ما يمكنها من حشد كل طاقاتها الممكنة، وتعبئة كل مواردها البشرية والمادية المتاحة، فإنها تراهن كذلك على  دعم وتفهم علمائنا، مثلما على تكثيف وتضافر جهودكل الشركاء الاجتماعيين والفاعلين الاقتصاديين من رجال مال وأعمال. وذلك لنحقق الغايات والتطلعات المشتركة، ولنضمن نظامًا تربويا رسم معالمه الأساسية ميثاق وطني توافقت حوله مكونات الأمة، وضمنه تعليم أصيل يشد الاجيال إلى منابعها الروحية والدينية ونسيج هويتها المغربية المتأصلة والمتفتحة في آن.

إن لدي شخصيا آمالا كبيرة في حوارنا وتعاوننا، ويمكننا أن ننجز أشياء أساسية بفضل إرادتنا المشتركة، وانطلاقا من نفس المرجعيات والثوابت، وتوحيد تصوراتنا ورهاناتنا. وسوف لايخيب الله ظننا لأننا لانكن إلا الخير والنوايا الطيبة لهذه الأمة العظيمة ولهذه الأجيال المتقدمة نحو المستقبل.

وسوف أتابع -سيداتي سادتي- أشغال هذا اليوم الدراسي، كما سأحضر أشغال الجلسة الختامية ملتزما بما سنتفق عليه جميعا. وفقنا الله لما فيه الخير والسداد.

والسلام عليكم رحمة الله تعالى وبركاته.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>