الـمحور الأول: أشغال اليوم الدراسي الأول عن التعليم الابتدائي الأصيللجمعة 7 ربيع الأول 1424هـ – 9 ماي 2003م  – ثانوية القرويين فاس كـلـمة جـمـعـيـــات الـعـلـمـاء بمناسبة اليوم الدراسي للتعليم الابتدائي الأصيل


 ألقاها: د. محمد يسف

بسم الله الرحمن الرحيم

لو سئلت عما يعنيه التعليم الأصيل، لكان الجواب هو ما يلي :

التعليم الأصيل، أو التعليم الوطني المغربي هو قلب هذه الأمة، وكبدها، وصمام أمنها ومجسد هويتها، ومحدد شخصيتها، ودليل على الوحدة والعزة، والاستقلال والحرية، ومعبئ وجدانها في أوقات الحرج والشدة وهو الذي أطر حياتها في مختلف مجالاتها، منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة عام، أنجبت خلالها أعلاما شوامخ أفذاذا كانوا ملء سمع الدنيا وبصرها وخلدوا من الأمجاد العلمية والابتكارات المعرفية ما نحت أسماءهم في سجل الخالدين، وجعل ذكرهم على كل لسان، وأكد أن العبقرية والنبوغ لم يغيبا لحظة عن رحلة تاريخنا العلمي.

ومع ذلك، فإن ما تعارفنا على تسميته اليوم بالتعليم الأصيل، ما هو في الحقيقة، إلا شيء يسير من بقايا ذلك التعليم العملاق، وقدر ضئيل من محصول كبير، سميناه باسم أصله مجازا من باب تسمية البعض باسم الكل.

كان التعليم المغربي، نظاما شاملا لكل أصناف المعرفة، دون استثناء، لم يفضل لنا منه سوى نتف وأطلال، تتحدى عوامل الزمان والمكان، وتغالب التيار العاتي في إلحاح على الحياة، وتشبث بالبقاء وتذكر -إن نفعت الذكرى- بأننا أمة عريقة في الحضارة والتاريخ، أمة لم تكن تستورد المعرفة بل كانت تنتجها وتصدرها، ولم تكن تقلد وإنما كانت تجتهد، وتفكر، وتبتكر.

وهذه رسالة موجهة من هذا التعليم، إلينا نحن بقايا هذه الأمة، تهيب بنا أن نقرأها ونعيد قراءتها علها تهدينا إلى سواء الصراط.

ولعل احتشادنا بهذه الكثافة في هذا اليوم وهو يوم له قدسيته بين أيام الله، وفوق هذا الصعيد الطيب الذي لا أشك لحظة، أن اختياره لم يكن من قبيل الصدفة العمياء، وإنما كان بتدبير وتفكير، لما يرمز إليه مكانا وزمانا.

إن روح جامعة القرويين، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني الهيبة والوقار، تحف هذا الفضاء، وكأني أسمع نداءها الآتي من وراء الماضي البعيد وأعماق التاريخ العريق يهيب بنا أن نتجاوز راهنية الضعف والوهن، ونسمو إلى أفق مجد هذه الأمة ونعبر إلى الضفة اليمنى حيث لنا موعد مع التاريخ من جديد، ومركزيتنا في صلبه وليس على هامشه وأرياضه، حيث نستأنف رحلتنا متبوعين لا تابعين ومجتهدين لا مقلدين، ومنتجين لا مستهلكين، متمسكين بجذور لنا وأصول هي طوق نجاتنا من الغرق، وملاذ أمننا من الخوف والفزع {فاستمسك بالذي أوحي إليك، إنك على صراط مستقيم}.

ولايخامرني شك في أن العزم مِنَّا قَدْ صَحَّ على أن يكون لهذا اليوم ما بعده، بكل ما ارتبط به من أحداث كبيرة ماجدة، وكيف لا، وقد حضر هذا الملتقى معنا، من بيده اليوم مقود تعليم أجيالنا وزمام تربية ناشئتنا، وحضوره هنا يؤكد صحة هذا العزم ويباركه، ويزكي هذا التحول الميمون طائره، والذي يتوج عملا جادا عكف على إنجازه فريق من أهل الخبرة الواسعة، والدراية العالية، في جلساتمتلاحقة.

إن الذين حدثونا، كانوا صادقين فيما حدثوا، ونحن ممن يحسن الظن، ويضع كل ثقته في ولاة أمورنا، ومدبري شؤوننا، ونحب الصالحين المصلحين منهم، ونحتفظ لهم في وجداننا وذاكرتنا مما هم له أهل من الاحترام والتبجيل.

حدثونا أن رجل هذه الوزارة جاد في عمله، فلا يعبث، ولا يحب أن يعبث، ولا أجده اليوم جاء ليخطب، ثم يذهب كما يفعل الكثيرون، ولكني أجزم أنه جاء ليؤسس عهدا جديدا، ويدشن عملا فريدا، لاشك أنه سيكون له، ولنا معه ولأمتنا وأجيالنا ذخرا وزادا يوم يفنى المدخر، وينفذ الزاد.

أيها الملأ الكريم :

إن العلماء عندما يتحدثون عن هذا التعليم -تعليم الأمة- في محاولة لرسم معالمه ويقربوه من الأفهام، فإنهم عندما يفعلون ذلك، لا يرجون من وراء عملهم إلا ابتغاء وجه الله، والنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ولفت الأنظار إلى ما نزل بهذا التراث النفيس من ظلم، ولقيه من جفاء وجفوة لا يمكن تبريرها.

إن فراغ الساحة من التعليم المغربي الوطني الأصيل والذي له ضوابطه في التلقي والأخذ، وله رجاله الذين لا يمكن أن يؤخذ من غيرهم، قد أفضى إلى شيء غير يسير من الفوضى والاضطراب، حيث بات علم الشريعة والدين يؤخذ من غير أهله، ويلتمس من غير مظانه، وفي ذلك ما فيه من الشر والبلاء ويوشك أن تكون له عواقب لا يمكن التكهن بمفاسدها، إن لم يتدارك الأمر عقلاء الأمة وأهل البصيرة والحكمة فيها.

ما أحسن أن نذكر في هذا المقام بما أنشده نصر بن سيار من قواد الدولة الأموية، وقد شاهد من أمارات الإهمال وسوء تقدير الأحوال ما أفزعه فقال :

أرى خلال الرماد وميض نار

ويوشك أن يكون لها ضرام

فإن لم يطفها عقلاء قوم

يكون وقودها جثث وهام

أصحاب الفضيلة

أيها السادة

إن الميثاق الوطني للتربية والتكوين حاول أن يكون وفيا لميراث الأمة، فيما انتهى إليه من رصد لنبض الحياة فيها وكان للتعليمالأصيل في بنوده نصيب مذكور، إن لم يكن في حجم الطموح، فهو على الأقل غير مجحف من حيث إنه اعترف لهذا التعليم بحيز ذي بال كما هو واضح في البند 88 منه، إذ جعله قسيما للتعليم العام، له بداية ونهاية، من الكُتّاب إلى الباكالوريا، لا شك أنه مكسب لا يسع العلماء إلا أن ينوهوا به، بيد أن ما جاء في الكتاب الأبيض لا يخلو من تضارب، نود أن يتداركه عزم أولي العزم بالمراجعة والتصحيح، والقراءة والتنقيح.

وبعد، فإن هذا اليوم الأغر، سيكون نقطة تحول في طريق بعث أمجاد هذا التعليم وإحيائه، ولاشك أن المرحلة المقبلة ستكون شاقة مظنيةوحاسمة في هذا الموضوع. وللعلماء استعداد للشراكة مع الوزارة في كل خطوة تخطوها في اتجاه تثبيت هذا المكتسب، ولن نقصر أبدا في الاضطلاع بمسؤولياتنا كاملة في هذا الصدد. والذي نطمح إليه هو أن نرى في المستقبل القريب والبعيد، ثمرة هذا الجهد، في صياغة رجال يجمعون بين علوم الشريعة، وما هو أساسي من العلوم الكونية، علماء يذكروننا بالقاضي عياض، وابن عبد البر، وابن حزم، والباجي، وابن رشد، وابن زهر وابن خلدون وأضرابهم من عمالقة الفكر الإسلامي الذين نعتز بهم ونفاخر، علماء يجتهدون ويجددون وهم يؤصلون، ويؤصلون وهم يجددون.. ويومئذ فقط تستعيد الأمة وعيها وتجدد انتماءها وتواصلها مع ذاتها.

حضرات السادة، اسمحوا لي إن أنا أطلت في هذه الكلمة، التي لن أختمها قبل أن أقوم بتقديم جزيل الشكر والامتنان إلى كل الذين كرموا هذا الملتقى بحضورهم بدءا من السيد الوزير والسادة العمال، والمنتخبين ورجال السلطة.

ولأصحاب الفضيلة العلماء، الذين حضروا بهذه الكثافة متحملين عناء المشقة وبعد الشقة، وكل الامتنان والعرفان بما بذلوه ويبذلونه من تضحية في سبيل حماية إرث النبوة، ورصيد الأمة.

وبارك الله في عمر أمير المومنين جلالة الملك، مولانا محمد السادس الذي يرعى العلم والعلماء رعاية خاصة ويقر عينه بولي عهده الأمير مولاي الحسن وينبته نباتا حسنا، ويشد أزره بشقيقه الأمير المولى الرشيد، ويحفظه في آل بيته الطيبين، وشعبه الوفي الأمين.

إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>