التزكية: أهميتها وطرقها ومحبطاتها


ومن طرق تحصيل التزكية:

القراءة وتشمل بدءا القرآن والسنة وسير السلف الصالح وكذلك مختلف العلوم والفنون، إذ كيف تتأتى معرفة العلوم والفنون والاطلاع على  أحوال الأمم السابقة واللاحقة، ونواميس تطورها ورقيها وأسباب نشوئها وهلاكها من غير قراءة؟ وكيف تأتى معرفة المستجدات في العالم المعاصر والاعتبار بأخطاء الغير ومصائره دون قراءة؟ إن القراءة توسع الأفهام وتثبت القلوب على الحق والإيمان، قال سبحانه : {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك}(هود : 119).

وللقرآن والسنة ميزات خاصة حيث تلتقي بالروح الإنسانية في فطرتها ونقاوتها وصفائها فتبصرها بحقائق الوجود وتأخذها سالكة بها الطريق إلى الله وسط الطرق المتعددة إلى غير الله، فهما اللذان ينيران الطريق للإبصار النفسي والإبصار العقلي والقلبي، ولهذا قال سبحانه في حال التذكر إذا أصيب الإنسان بعمى الإبصار لهذه الأنواع  المذكورة، {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}(الأعراف : 201) وقال كذلك، {فإنها لاتعمى  الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج : 44) وقال عز وجل كذلك : {قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ}(الأنعام : 105) وقال : {فاعتبروا يا أولي الأبصار}(الحشر : 2.).

ونظرا لظلمة الحياة وتشابك طرقها وكثرة مزالقها أمرنا رسول الله   بالتمسك بالكتاب  والسنة لأنهما أصلح وأوضح طريق للخلاص، فقال  : >تركت فيكم أمرين لن تضلوا ماتمسكتم بهما كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يرداعلى الحوض<(رواه الحاكم).

وتزكية النفوس بودائع الشريعة السمحة أهم أنواع التزكية لأن ما أودع في القرآن والسنة من أحكام ومصالح وحكم وأخبار لا يستطيع الإحاطة بكل أسرارها حتى العالمون الراسخون لأن العقل الإنساني ضعيف مهما بلغ كماله، أما الأسرار الربانية والحكم الإلهية، فقد ينكشف بعضها ويغيب بعضها، أو قد لاتدرك منافعها ومصالحها، ولكن بكثرة القراءة والتدبر لهذين الأصلين الجليلين تتجلى الحقائق وتدرك المقاصد، بالإضافة إلى أنهما واضحا التعبير، لهذا يتفاعل الوجدان مع هذه التعابير، فيتمكن العقل من استساغتها ولأنها كذلك جامعة للمعاني ودقائق المحتوى .

ثم إن قراءة العلوم والفنون المختلفة تزكي العقل، وتوسع دائرته، فتفيد الإنسان في دينه ودنياه، ذلك أن العقل لايزكى ولاينمو إلا بالعلوم والفنون تجريدا أو تطبيقا ويتضح أثر ذلك في التزكية من قوله تعالى :{وما يدريك لعله يزكى }(عبس : 3) وفي تفسيرها بسبب ما يتعلمه منك، كما في فتح القدير للشوكاني (1) والعلم يزيد الإنسان طهارة وفهما لدينه ودنياه، ويزيل ظلام الجهل عنه، وينير طريق الحياة أمامه، بل إن درا سة العلوم تزكي العقل مراتب ومدارج، فكلما زادت المعارف تعلق بأعلى المراتب، حتى إذا وصلت إلى أوجها أثمرت الخوف ففاض ذلك على القلب، ومن ثم تبدو صفاته  على الجوارح، ويكفي أن الحق سبحانه قضى  بأن العلماء هم أشد الناس خشية له سبحانه، فقال : {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} (فاطر : 28) وقد ذكر العلم إلى جانب التزكية في أربعة مواضع  من القرآن الكريم : في البقرة، الآية 128، وكذلك الآية 150، ثم في آل عمران الآية 164، وفي سورة الجمعة الآية 2.

ومعرفة الفنون النظرية والتطبيقية تزكي كذلك الجانب الجمالي في الإنسان فتلطف عواطفه، وتقوي طرق ارتباطه وتعامله مع الناس والحياة.

يقول ابن قيم الجوزية في مدارج السالكين :” مذاكرته (أي العلم) تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، ومدارسته تعدل الصيام والقيام” (2).ونحن الآن نعيش عالما يعج بالمعارف والعلوم والفنون تنظيرا وتطبيقا، فمتى  ربطها الإنسان بالشرع الحنيف، أثمرت لديه أفضل الثمار وأحسن المنافع، وقوت عنده معرفة الحلال والحرام، وكيفية تعامله مع نفسه وربه ومجتمعه.

مجالسة العلماء وأهل التقوى والصلاح، فهم خير معين على التزكية، قال  : “من يرد الله به خيرا يهده خليلا صالحا، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه” ( رواه أبو داود والترمذي) وقال كذلك : ” المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل” ( رواه أبو داود والترمذي).

وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم بمصاحبة وملازمة الصالحين، فقال في سورة الكهف : {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} (الكهف : 28).

ومن أعظم الأدلة الصريحة على اختيار الصحبة النافعة حديث قاتل المائة حيث نصحه العالم الصالح : ” …. انطلق إلى أرض كذا وكذا فإنه بها أناس يعبدون الله عز وجل فاعبد الله معهم، ولاترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء…”(متفق عليه).

وقال إبراهيم الخواص : “دواء القلوب خمسة  : قراءة القرآن بتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين” (3) لأن صحبتهم ومجالستهم تعرف الإنسان بعيوبه وتفجر صدره للتدين وتحيي نفسه للعمل الصالح، فهذه الصحبة أنجع دواء للروح والنفس، وكان أبوالحسن الندوي رحمه الله يقول : ” كان الطريق القوي المؤثر للحصول على مثل هذه الغايات -التزكية ومعانيها- في فجر تاريخ الدعوة الإسلامية صحبة النبي   التي لايجهل تأثيرها وقوتها أحد”(4).

وقد اجتهد علماؤنا في الكتابة عن الصالحين والعابدين والصالحات والعابدات قصد الاقتداء بهم وباجتهادهم ودأبهم على العمل الصالح، وساق في ذلك ابن الجوزي أخبارا طريفة في كتابه صفة الصفوة، كما ساق صاحب حلية الأولياء سيرا وأخبارا لطيفة في ذلك.

وهكذا تكون الصحبة الصالحة خير معين على  تزكية النفوس والقلوب والعقول، أما مجالسة العلماء والاستفادةمما أفاضه الله عليهم، من أنوار المعارف ودرر العلوم وجواهر الفنون، فمطلوب شرعا ومن وسائل التزكية المهمة جدا، فقد قال  : “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده” ( رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة).

وقال جل شأنه : {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} (آل عمران : 78).

قال الشوكاني : “أي بسبب كونكم عالمين، أي كونوا ربانيين بهذا السبب، فإن حصول العلم للإنسان والدراسة له يتسبب عنها الربانية”(5)

وقال ميمون بن مهران : “العلماء هم ضالتي في كل بلد، ولقد وجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء” (6) وقال عطاء بن أبي رباح : ” من جلس  مجلس ذكر كفر الله عنه مجالس السوء، قيل وما مجالس الذكر؟ قال : مجالس العلم، تعرفون بها الحلال والحرام”(7).

فمجالس العلم هي الخير كله في تصفية النفس من الجهل، والسمو بها إلى مدارج الكمال، وبها تحل السكينة على القلوب، وقد قال  : ” لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة”(رواه الإمام أحمد).

أداء الفرائض، فهي من أعظم طرق التزكية، وأفضل القربات إلى الله عز وجل إن هي أوتيت على وجهها الحقيقي والأكمل وفي الحديث القدسي فيما يرويه  عن ربه : ” وما تقرب إلي عبدي بشئ أحب إلي مما افترضته عليه” (رواه البخاري) كما أن النوافل تزيد في التزكية لأنها سياج للفرائض وتجعل العبد في اتصال دائم بربه سبحانه وتقربه إليه، وإدرار الرحمة عليه، فقد روى  البخاري في صحيحه أن رسول الله   قال : “…. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصربه، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها” (رواه البخاري).

وأفضل النوافل قيام الليل وصوم التطوع والتصدق على المساكين والفقراء ومساعدة المحتاجين والسير في قضاء حوائج الناس.

هذه هي أهم وسائل التزكية لتطهير النفوس وتثبيت القلوب في مواجهة غوائل الشر والضلال والانحراف.

مـوانع الـتـزكية ومحبطـاتـها:

وكما أن للتزكية طرقا ووسائل، فلها موانع ومحبطات، ومن أخطرها :

أولا : الإعراض عن أصلي الأصول القرآن والسنة وما حوياه من جواهر في المواعظ والأخبار والأحكام والتوجيهات والتسديدات. فكل العلوم والفنون وصور الكلام  المختلفة هي دونهما قيمة وميزانا ونفعا، فالقرآن والسنة مجموع كلي دال على  الطريق المستقيم. فقد قال سبحانه في محكم كتابه : {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم} (الملك : 22) وهما آيتان عظيمتان بحاجة إلى تبصرهما فقط، لهذا قال الحق سبحانه : {ياأيها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} (النساء : 58)، وقال في حق رسوله الأكرم : “لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة” (الأحزاب : 21)، وقال سبحانه واصفا قرآنه الكريم : {هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (الجاثية : 20) وقال كذلك : {قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها، وما أنا عليكم بحفيظ} (الأنعام : 105).

والمعرض عنهما خاسر خسرانا مبينا، وعمره مضيعة، ولا طائل من وراء عمله، قال سبحانه : {ومن أعرض عن ذكري فإن به معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} (طه : 122) والإعراض عن السنة ضلال كبير بنص القرآن الصريح، قال سبحانه : {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}(الأحزاب : 36) وقال في سورة النساء : {فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (النساء : 64) فهما مصباحا الهداية إلى الحق، وطريقا السعادة لمن عمل بهما.

ثانيا : الاختلاط بقرناء السوء وخلطاء الفساد، فذلك مضيعة للوقت، وهدر للمصالح، والاشتغال بأمورهم غم ونكد، كما أن أمانيهم ومطالبهم كلها سراب وخداع تقتل وتميت النفس والقلب، وصحبة هؤلاء هي في المصالح الدنيوية وقضاء المآرب الآنية ولكن إذا استبانت الحقائق انقلبت إلى خصام وعداوة وندم، قال سبحانه : {ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى لم اتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكربعد إ ذ جاءني} (الفرقان : 27-28)، وقال سبحانه : {الاخلاء بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} (الزخرف : 67) ثم قال: {يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين} (العنكبوت : 24)

هذا شأن الصحبة الفاسدة، فمآلها المصلحة الفانية والندم والحزن. وقد نصح علماؤنا في مصنفاتهم المسلم بتجنب هذه الصحبة، ووضع ابن القيم رحمه الله الضابط النافع في أمر الخلطة فقال : ” أن يخالط الناس في الخير ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر ولم يمكنه اعتزالهم فالحذر الحذرأن يوافقهم” (8).

———————–

1- فتح القدير للشوكاني، 382/5.

2- مدارج السالكين، 1/17.

3- صفة الصفوة للإمام ابن الجوزي 2/ 307.

4- ربانية لارهبانية للاستاذ الندوي ص : 76- 77.

5- فتح القدير للشوكاني، ج : 1، ص : 355-356.

6- الموعد الله، خالد محمد خالد، 72

7- نفسه، 72.

8- مدارج السالكين، ج 1، ص : 490.

د.عبد الحميد أسقال

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>