مع كتاب الله عز وجل تفسيــر ســـــورة التغابـــن 22


كما خلق الله السماوات والأرض بالحق، فإنه أنزل الدين الكفيل بسير الإنسان على الأرض بالشرع الحق، ومن الحق مراعاة التوازن بين المصلحة العامة والخاصة في كل شيء.

 

مجرد رفع شعار المصلحة لا يكفي لتحقيق المصحلة

هناك أناس يدعون  صباح مساء إلى أشياء يرونها إيجابية، وهؤلاء الناس كل واحد منهم يبرِّرُها ويعطيها غطاء الدفاع عن  المصلحة، فهذا مثلاً أراد المرأة أن تكون سافرة فبرر هذا السفور بأن الحجاب لا يمكنها من الحركة والنشاط وقَبِلَ بذلك من قَبِلَ، وجرى الناس بدرجات وبمراحل إلى التعري والانكشاف حتى سُوِّلَ للناس أن من مصلحة المرأة أن تكون منكشفة متعرية، أما إذا ظلت متحجبة فهذا يعوقها وهذا سبب تخلفها في كل الميادين.. إذن برفع شعار المصلحة استطاعوا أن يضربوا جزءاً مهما من أحكام الشريعة، برفع شعار المصلحة عطلنا الشريعة الاسلامية، إذن هل نقبل إلى مالا نهاية له أن نخدع بهذه القضية (قضية المصلحة) أي هل كل من رفع هذا الشعار قوله صادق وصحيح؟ وهل يمكن أن يؤخد به أم لا؟؟ ما هي فلسفة الشريعة الإسلامية، وفلسفة الإسلام في قبول المصلحة أو رفضها؟

الإسلام له منطق صارم في قبول المصلحة أو رفضها :

إن الإسلام له منطقه الصارم الذي يُحَصِّنُ المصلحة ويدافع عنها، ولكن في نفس الوقت يكافح كل أنواع التهتك، وكل أنواع الميوعة، وكل أنواع التفلُّت من الشريعة الإسلامية، فليست الدعوة إلى المصلحة كافيا لترك الشريعة الإسلامية، وبمعنى آخر إن علماءنا الأقدمين رحمهم الله ورضي عنهم بذلوا الجهد الكبير في بيان فلسفة الإسلام ومنهجها في قبول شيء ورفض آخر.

إن إيجاد الشيء الواحد الذي هو مصلحة مطلقة أو إيجاد الشيء الآخر الذي هو مفسدة مطلقة أمر عزيز نادر لأن الدنيا دار الأكدار، اختلطت فيها المصلحة بالمفسدة، وهنا يأتي الجهد لتمييز الصواب من الخطأ، فالعلم بالنسبة للإنسان مصلحة وخير، وهو الذي يميز الإنسان عن باقي الكائنات. ولكن قبل أن تحصِّّل العلم يلزمك تحمل مشاق كبيرة، سَهرُ ليالٍ، وقراءة وشراءُ كُتُب، وسفر واهتمام وإهمال لبعض شؤونك الدنيوية، في الأخير قد تنال شيئاً من العلم، لأن العلم بطبيعته كما يقال -العلم معتز بنفسه- إذا أعطيته كُلَّكَ أعطاك بعضَهُ وإذا أعطيته بعْضَك لم يُعْطِكَ شَيْئا. إذن فالعلم وهو مَكْسبٌ مهم تُحيط به مصاعب ومشاق ومضار ومفاسد، ورُبَّ علماء جاعوا، ورُبّ علماء عرفوا العُرْيَ، ورُبَّ علماء لاقوا الشدائد في تحصيل العلم ووصلوا بذلك إلى درجة لا تُتَصور من ركوب الأخطار والسير على الأقدام، إذن فالعلم بهذه الطريقة وإن كان خيراً كله لكنه محفوف بمضار كثيرة، ومفاسد كثيرة وفوات المال، وفوات كذا…

إذن فكيف تحقق التوازن بين جلب المصلحة ودفع المفسدة؟؟! هناك طريقة اسلامية ذكية مهمة في تقدير الأشياء والموازنة بينها.

منهج الإسلام في التعامل مع المصلحة والمفسدة

إذا كان الشيء فيه مفسدة ومصلحة فإن للإسلام فيه منْهَجاً يتلخص فيما يلي :

< قد يكون الشيء ظاهر المصلحة أو ظاهر المفسدة فهذا لا إشكال فيه فهناك أشياء لها مفسدة مُتَّجِهة أولها مصلحة متجهة كذلك، مثلا : كون الإنسان يتنفس الهواء، كونه يشرب، كونه يتبرد.. الخ فهذه مصالح لا مندوحة للإنسان عنها، ليس له منها مفر، إذا لم يتنفس يختنق، أو إذا لم يشرب كذلك يموت فالمصلحة في هذا الأمر واضحة. وهناك أمر آخر فيه مفسدة واضحة كالكفر بالله لا مصلحة فيه لأحد، لصلاح من يكفر الإنسان أي بماذا يعود عليه كفره. وكذلك الظّلْمُ لا مصلحة فيه، وكذلك إحراق مال الآخر ظلما وعدوانا، وكذلك الزنا، والسرقة.. إذن فهذه الأشياء واضحة، فما كانت المصلحة فيه ظاهرة فإن الشرع يأذن فيها أو يُوجبها، وما كان فيه المفسدة ظاهرة فالشرع ينهي عنها.

< في حالة ما إذا كانت المفسدة ضئيلة إلى جانب المصلحة الكبيرة فالشرع يأذن بها.

< وإذا كانت المفسدة كبيرة والمصلحة ضئيلة، فالشرع يمنع المفسدة الكبيرة ولو ضحى بالمصلحة الصغيرة.

والذي يقدر المفسدة والمصلحة في غير المنصوص عليه في الكتاب والسنة هم العلماء الربانيون الذين يستنبطون ذلك من النصوص الشرعية أما الذين يريدون الزيغ والضلال فلا ينظرون إلى المفسدة الكبيرة ولكن يركزون على المصلحة الصغيرة فانظر إلى طوفان الأشرطة الفاسدة مقابل نصيب ضئيل للأشرطة الصالحة، وانظر إلى طوفان الإشهار الرديء الداعر مقابل لاشيء من الإشهار لأنواع الخير والمعروف تعرف في أي واد تهيم الفضائيات والقنوات بدون رقيب ولا حسيب.

إنّنّا لم نمْلك بعدُ الحس الذي نستطيع به أن نوازن بين الأشياء ولذلك دائما تكون موازننا جائرة ظالمة، نركز على شيء فيمقابل أشياء وأشياء، فالرجل المتدين فينا مثلا يقيم حفلة عرس فيحطم كل القيم والدين، ويحارب الله ورسوله مقابل نشوة ولحظة عابرة، إذن ما بنيته من أخلاق ومبادئ في عشرين سنة تحطمه في ليلة واحدة كيف ترجح مصلحة تافهة مقابل مفاسد كبيرة، هذا فساد كبير في الميزان، إن العلماء قالوا : إن الحيوانات بفطرتها تمتلك الترجيح بين المصلحة والمفسدة لا تتبع مصلحة حتى تبتعد عن المفسدة.

فمثلا الغزال قد يقتله الظمأ ويريد أن يذهب إلى الماء في البرية لكنه قبل أن يذهب إلى الماء يحاول أن يتأكد أن ليس هناك رصَدٌ، ليس هناك شِباك، ليس هناك أسد، فإذا رأى هناك شيئا يمكن أن يكون خطراً عليه لن يشرب الماء، فهو لا يصبر على العطش، ولكنه قبل المصلحة يفكر أولا في المفسدة يخاف أن يصل إلى الماء ولا يعود.إذن الانتباه إلى المفسدة والبعد عنها في الشريعة الاسلامية مقدم على جلب المصلحة، فلذا يجب على المسلمأن يكون مثقفاً واعياً بدينه يملك عقلية واعية.

لو كنا نملك ميزان الترجيح الشرعي فما مقدار المصلحة في الخمر والتبغ والتزوج بالأجنبيات لقاء الجنسية والعمل خارج الوطن -مثلا- في مقابل المفاسد الكبيرة المهلكة للعرض والعقل والدين والاقتصاد والنفس…؟؟ وانظر مثلا إلى الرياضة، فهي مصلحة بدون شك، ولكن الرياضة الحالية في مقابل مفاسد إلهاء الناس، وتضييع أوقاتهم، وإهدار أموال الشعوب بدون طائل، وتضييع مستقبلات الشباب في السفر وخمارات الأندية الرياضية.. فأين هي المصلحة النظرية مقابل المفاسد الواقعية؟؟ فكم من مصلحة معتبرة شرعا تضيع بسبب إغراقها في المفاسد، لانعدام التخطيط الراشد وانعدام المراقبة الحكيمة.

كل المقومات التي تجعل البشر بشراً الإسلام دافع عنها. يجب أن تكون عقولنا قادرة على أن تُمَحِّص وتُمَيّز وتكون لدينا شجاعة لنقول هذا خطأ وهذا صواب، ما كان خطأ نتبرأ منه، ونتركه وما كان صواباً نقدم عليه والإسلام معك دون أن يفتي لك المفتي.

فمثلا امرأة تقوم بألعاب رياضية من تَحَرُّكٍ على حِبَالٍ.. في منظر بشع، امرأة مكشوفة مفضوحة وفي المقابل أنت تتفرج عليها وتصفق لها لأنها تقوم بعمل رياضي فهذا العمل الرياضي مقابل التضحية بالأخلاق ليس شيئا.

إذن فالمنهج الإسلامي واضح وهو أن ما غلبت المصلحة فيه فالإسلام يؤيده وما كانت المفسدة فيه غالبة فالإسلام ضده، لأن الإسلام لا يهتم بما هو أقل أو بما هو ثانوي.

لا يجيز الإسلام المصلحة الضئيلة إذا كانت مرتبطة بمفاسد كبيرة ولكن الإسلام يبحث عن بديل أو بدل لتلك المصلحة فيحققها بطرق أخرى وهذا أسلوب عجيب في الدفاع عن مصالح الناس.

مثلا ذكر القرآن أن في الخمر منافع ولكن اثمها الكبير أكبر من نفعها، فلذلك حرمت وهذا هو المنهاج الشرعي الموازنة بين حجم الشر وحجم الخير، حتى يكون الإنسان آمنا على نفسه وعقله وعرضه وجميع مصالحه.

إن الإسلام إذن قد يرى مصلحة ممزوجة بمفسدة فيعدل عن تلك المصلحة فالإسلام ألغى مصلحة الخمر ومنع الخمر ولكنه عوَّض تلك المصالح بطريقة أخرى حرَّم الخمر والمتاجرة فيها، وأحَلَّ كُلَّ مشروب حلال لا يُسْكِر، كما أحَلَّ المتاجرة في كل شيء ينْفَع بدون أن يضر بالعقل أو الخُلُق. والإسلام له صنيع عجيب في هذا الأمر كلما منع شيئا إلا وأعطى ما يواجهه. منع الغناء الفاجر والساقط ولكن أباح للناس أن ينشدوا الشعر وأن ينشدوا الأمداح فما يمكن أن يسمى فنّاً عن طريق الأدب الساقط يُمْكن أن يُعوض في الإسلام بما هو أرقى أدباً وفنّاً وخُلقا وأثراً.

فالإسلام فعل هذا في الغِناء، والنحت، وفي الفنون المُجَسِّمة فالإسلام منع التجسيم والشيءَ الذي له ظل، وكان الناس من قبل يصنعون التماثيل ومن التماثل وصلوا إلى الشرك بالله وصلوا إلى عبادة الأوتان، اليونان والرومان صنعوا التماثيلوجسموا عليها عورات الرجال وجسموا عليها عورات النساء، بعض التماثيل الآن في أوربا والتي تعود إلى كبار الفنانين مخجلة بحيث المسلم لا يمكن أن يتخذ ذلك في بيته، ولكن الإسلام إذ منع ذلك فقد أعطى المسلمين متسعا، فقد أباح لهم الخط الجميل أباح لهم التخريم يخرمون الخشب وينقشونه إلى غير ذلك من أنواع الفنون الجائزة.

د. مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>