الاعتقاد الصادق بأن الله عليم بذات صدرك يعطيك الاطمئنان والتفويض له
إن الله عليم بذوات الصدور أي بالنوايا وبالأفكار وبالخطرات، الموجودة في الصدور، وعلى هذا من زعم من الناس أنه يستطيع أن يعرف قلوب الناس ويكتشف أحوالهم فإنه يدعي ادعاء عريضا لا يستطيع أن يؤكده، من قال إذا رأى الرجل فإنه يعرف ما في قلبه فقل له : إن هذا زعم كاذب، نعم يمكنك أن تعرف بعض أحوال الناس ببعض القرائن، تعرف إن كانوا مراوغين أو منافقين من بعض الأشياء كما قال الله تعالى : {ولَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ}(سورة محمد) أي في طريقة الأداء يمكنك أن تستبين أن فلاناً منافق أو مراوغ، أو أنه ماكر، ولكن هذا يحتاج إلى فراسة وحذق وذكاء ودهاء لتعرف أن فلاناً فعلا ليس ممن يُطْمأَنُّ إليه ولكن هذا كله نابع من قولهوقول الله تعالى، أنت تمزج بين طريقة أدائه وكيف يصف الله المنافقين، وتعرف أنهم من شأنهم أنهم يُحْسِنون التملق والتقرب، وأنهم إذا لقوكم صدقوكم وإذا غابوا عنكم سلقوكم بألسنة حداد، وأنهم يبخلون وبذلك تستطيع أن تستبين الانسان من خلال التفرّس في أحواله، وهذه مسألة ليست من علم الغيب.
وقد كان عندنا في تاريخنا أناس لهم فراسة، ولكن من بعض القرائن أي من بعض الأشياء الظاهرة، وقد كان من القضاة المسلمين القاضي إياس الذي كان يعرف بأنه كان يجلس إليه الخصوم فيعرف كثيرا من أحوالهم، ولكن يعرفهم من بعض تصرفاتهم. تجلس إليه المرأة في مجلس مثلا فوضعت يدها على ثديها، فيعرف أنها مضع فلكثرة ما ترضع ولدها تتعود على حمل ثديها ولا تبالي أن تمس ثديها والرجال حاضرون. ولكن هذا نوع من الاجتهاد. ويمرّ مثلا ويسمع صوت كلب ينبح ويقول هذا الكلب ليس من هذه الجهة أي كلب غريب، فقيل كيف عرفت ذلك، قال عرفت ذلك لأن الكلاب لا تجيبه، لأنها تنكر صوته ولو كانت تعرفه من هذه الجهة لنبح فرُدَّ على نباحه.
هذا من باب القرائن وهي أشياء كثيرة يمكن أن نعرفها ويمكن ألا تعرفها، يمكن أن تصيب ويمكن أن تخطئ. فهذا من باب الفراسة وهي كثير في كلام العرب وكلام الحكماء في الجاهلية أمّا اطلاع الانسان على ما في قلب الآخر فليس ممكنا أبداً لأنه من اختصاص الله عز وجل، فمن قال لكم أنه يعلم ضمائر الناس وقلوبهم، وأن فلاناً جلس إلى فلان من الشيوخ، فأول ما جالسه من قبل أن ينطق عرف قلبه فاعلم أن هذا الإنسان مُدَّعٍ وكاذب، إن الله تعالى هو الذي يعلم الأفكار ذوات الصدور التي لم يُعَبَّر عنها، والأفكار إذا عُبِّر عنها بالتعبير أو بالاشارة لا تعود أفكاراً إنما تعود تصرفات يمكن أن تفهمها، لكن الانسان جالس لا يتكلم ويمكن أن تعرف فكره وما يدور بذهنه طبعا فهذا ليس لك، هذا الأمر من اختصاص الله تعالى. إذن فالله عليم بذات الصدور، يعلم النويا والخبايا.
وفي باب العقيدة فإننا نربطها بالسلوك الانساني لأن العقيدة لها أثرٌ على سلوك الإنسان، الله سبحانه وتعالى هنا يصف نفسه بالعلم الذي يتغلغل الى نفس الإنسان.
فأما وصف تعالى نفسه بالعلم فلأنه سبحانه عليم فهو هكذا، وصْفُه العلم، وله من صفات الكمال الكثير، من جملتها صفة العلم، إذا علمت أن الله عليم ماذا يعطي هذا؟ يعطيك نوعامن الاطمئنان في كل المعاملات. مثلا تريد بناء بيتٍ، فتبحث عمن يبنيه لك فيوصف لك فلان وفلان بأنه ماهر وحاذق ويده صناع يتقن مهنته بدليل أنه أنشأ كذا وبنى كذا فربما تزوِّر المكان الذي تقول أنه بناه وتراه عجيبا ومناسبا فتسلم له امرك وتحكِّمه في مالك وتقْبَلُ، ويقع لك الاطمئنان لأنك أنست منه العلم.
نأخذ مثالا آخر لطبيب، ماهر وناجح ونسبة العمليات التي أجراها ناجحة فتستسلم له وأنت مطمئن لعمله.
فإذا انطلقت من أن الله عليم بك بما يصلحك وينقصك، عليم بما ينفعك، بما تحتاج، عليم بكل شؤونك فلماذا لا تفوض أمرك له. إذن مقتضى العلم الاستسلام لله عز وجل، إذا عرفت أن الله عليم لا يفوته شيء أيُمكن أن تتصور أن شرْعَه لا يصلح لنا؟؟ فكل علم يصدر منه فهو في صالحنا، وهو خير لنا، وكل شيء شرعه لنا ففيه منفعة، ونحن لسنا في مستوى أن نفهم كل المصالح التي تحصل لنا بأن الله حَكَمَ فيها. قال تعالى : يَدُ السارق يجب أن تُقطع، فيجِبُ أن تقطع، فلو اجتمع البشر كلهم على أن يد السارق لا يجب أن تقطع لقُلْت لهم إنهم يكذبون، لأني إذا قبلتُ الحديث في هذا الموضوع فإنني شكّكْتُ في علم الله عز وجل، العلم يعطي اليقين في الاقتراب من الله والاستئناس بشرعه والاقبال عليه والاقتراب منه لأنك مع من؟ مع العليم الخبير.
فيجب عليك أن تستأنس به، أن تسلم امرك له، وأمْر اسرتك لله عز وجل، وتحكِّم شرعه فيك،هذا معنى العلم فإذا قلت أن الله عليم بذات الصدور ولكنَّ هذه لا يعرفها الله أعرفها أنا فقط، هؤلاء هم المتطرفون المتناقضون وأهم ميزة فيهم أنهم يحبون أن يعيشوا في التناقض لأن الناس أصبحوا يأنسون بالتناقض مع الإسلام وضده، يحب الدين ويحارب الدين، هو مع القرآن ويكره القرآن، هذه المختلطات تعطيك، إنسانا مشوشا مضطربا ليس له عنوان، ليس له شخصية وليس له انتماء..
الإيمان بأن علم الله تعالى شامل ومحيط بنوايانا وأسرارنا يضبط الإنسان من الداخل ويجعله يخاف الله وليس القانون
فهمتم لماذا ذكر الله عن نفسه أنه عليم لأجل أن يقع التفويض واللجوء إليه والاقبال على شرعه ثم إن الله تعالى يقول أنه عليم بذات الصدور بمعنى أن هذا العلم الإهي يلاحقنا إلى درجة أن النية وإن كانت ليست شيئا ظاهراً (نوى خيرا أو شرا) فتلك النية يؤجر عليها الإنسان، لنفرض أن انسانا نوى الحج مثلا فعجز عن ذلك أو ضاعت نفقة حجه، أو مات فإنه يوم القيامة مأجور على حجه مأجور على شيء لم يره الناس، فهذه حسنة لا تظهر للناس، والذي يضْمِرُ السوء للناس ولايذكره يعيش على ذلك ويموت على ذلك، لاشك أنه سوف يجازي على ذلك الظن السيء الذي كان يتركه يرْبُو في نفسه، بعض الناس في قلوبهم شجرة من الحسد للناس ويترك تلك الشجرة تنمو في نفسه، والبعض يسوء ظنه بالله وبالمسلمين، وكذلك كفر الإنسان، كل ذلك أفكار لم يُعَبَّرْ عنها ولكن الإنسان يحاسب عليها.
إذن هذا يعطي أن الإسلام بعقيدته هو الذي بامكانه أن يصلح الإنسان في بعده ا لداخلي. القوانين المعاصرة تريد أن تضبط الناس وتربيهم وما إلى ذلك، لكن ما هي الحالات التي يمكن ضبطها؟ هي حالات قليلة جدا، إذْ كلما استطاع الإنسان أن يسرق بطرق منهجية، فإنه لا يضبط، فالذي يسرق بالفاتورة مثل الموظفين المسؤولين عن التموين في كثير من شؤون الدولة، كيف يُضبطون والذييسرق بالعلم من يستطيع أن يحاسبه؟؟ توجد مناقصة ومزايدة وتوجد فاتورة لكن المال ذهب. مثل المعلم الذي كان يعلِّمُ بعض الكبار القرآن الكريم، وكان يدرِّسهم وبعْضُهم يخشعون ويبكون وبعد ذلك التفت وانتبه فلم يجد مصحفه، فقال كلكم يبكي ولكن مصحفي قد ذهب فمن أخذه؟ فمن يطلع على ذلك غير الله؟.
هكذا المال يذهب وبطرق قانونية. ولا ضبط سنوات وهذه الظاهرة لم تستطع الأمة أن تعالجها؟ ليس في هذه الحالة إلا مطلع واحد يمكن أن يعاقب على النية السيئة وهو الله عز وجل الذي يعلم دفينة الانسان، الآن نحن أمام نوعين من البشر في مجال التربية : نحن أمام إنسان يخاف الأوراق ويخاف من القانون، فهذا إنسان لا يترك الرذيلة ولكن يجتهد ألا يترك آثار الجريمة، فهو يخفيها أو يُكيّفُها قانونيا مثل النظام العالمي الجديد، نظام الجرائم نظام سحق الشعوب، وكل مرة يكون هناك تكيّف قانوني يجعل مأساة بعض الشعوب تكبر مثل المسلمين الذين كانوا في البوسنة يسحقون والأمم المتحدة تتظاهر وكأنها تنتظر الوقت الناس حتى تكون مجموعة من المدن قد سقطت، إذن الجرائم التي تقع هي جرائم فظيعة جدا ولكن الأروبيين واليهود والأمريكيين يحسنون التكييف مثل قول اليهود وغيرهم بأن القدس هي عاصمة كل الديانات، بل أصبح يقال الآن إنها عاصمة سياسية لليهود، هذه سرقة ولكن مكيفة، سرقة للشعوب والمدن، وسرقة للتاريخ، وسرقة للضمير، وسرقة للأخلاق بدون مبالاة بقانون الله عز وجل.
عندنا الشخصية الثانية وهي الشخصية الاسلامية وهي ترى أن الله يعلم السر وما أخفي، أنت موجود في حجرة مظلمة تضمر سوءا فالله تعالى يحاسبك على ذلك إذا نويت السوء في قلبك كل ذلك ستجده يوم القيامة مكتوبا أمامك، كما تجد جميع المعاصي الظاهرة التي تمارسها بيديك. وحينئذ نجد أن النفس المؤمنة صالحة، أيّ التربية اسلامية هي التي يمكن أن تعطينا انساناصالحا في عمقه وفي قرارة نفسه وفي جميع مراحل حياته؟؟ إنه ليس الإنسان الذي يخاف القانون ويعصي في غيبة القانون بل هو إنسان يؤمن بالفضيلة وبالحق في سره وعلانيته.
أ . د .مصطفى بنحمزة