فضاءات دعوية دور التربية على المبادئ في نشأة القاعدة الصلبة (12) من حاجيات القاعدة الصلبة اليوم : التجرد لله والوعي الحركي والسياسي


مما تحتاج إليه القاعدة الصلبة التي يُراد منها اليوم أن تواجه الجاهلية العاتية المحيطة بالإسلام من كل جانب : التجرد  لله، والوعي : الحركي والسياسي.

من مداخل الشيطان إلى نفوس ذوي المواهب خاصة، فتنة “الذات”، فتنة “الأنا”. حين يكون الإنسان جندياً في الصف يكون أبعد عن كيد الشيطان منه حين يبدأ يبرز بمواهبه، وتكون له مكانة خاصة، فهنا يجد الشيطان فرصة أكبر للغواية! وكلما برز الإنسان كانت محاولة الشيطان لإغوائه أشد!

وتكون الفتنة في عنفوانها حين يتهيأ الإنسان لمركز من المراكز القيادية، أو لمركز الزعامة ذاته.. هنا يختلط الأمر في كثير من النفوس إذا لم تكن قد تربّت على التجرد لله، بين الدعوة وبين “الأنا” القائمة بالدعوة.

أنا ممثل الدعوة! أنا الذي تتوفر فِيَ الصفات المطلوبة للقيادة! إذن فما يصيب شخصي يصيب الدعوة! وما يريحني وترتاح إليه نفسي هو صالح الدعوة! هكذا يتدسس الشيطان إلى النفوس، فيجعل ذواتنا مركز اهتمانا ومركز تحركنا.

إن فلاناً يقف في طريقي، يناوشني أو يعارضني، أو لا ترتاح إليه نفسي.. إذن فوجوده ليس في صالح الدعوة، بل قد يكون خطراً على الدعوة! لا بد من وقفه عند حده! لابد من تحجيمه! إن لم يكن الأفضل فصله من الجماعة، لتسير الدعوة في طريقها المستقيم، أي الطريق الذي يكون فيه عزي وجاهي وسلطاني!

آفة من أشد آفات العمل الإسلامي، آفة أدت في الجهاد الأفغاني إلى إهدار دم مليون ونصف مليون شهيد، والعبث بمقدرات أمة، وضياع أمل تعلق به المسلمون في كل الأرض! ومازالت تتسبب فيما يصيب بعض الجماعات من تشقق وتحزب وتشرذم وعداوة وخصام، وإن تلفع الخصام بخلاف على المبادئ أوالخططأو الأساليب!

حين نكون متجردين لله نحتمل النقد سواء كان لأشخاصنا أو لأفكارنا أو لتصرفاتنا..

ونضرب مثلاً من جماعة الذروة، لا لأننا نعتقد أنه يمكن أن يوجد في عصرنا الحاضر! ولكن فقط لننظر كيف يفعل التجرد لله في نفوس البشر، فيرفعهم إلى تلك الذرى العالية، وهم بعد بشر ما يزالون لم يصبحوا ملائكة، ولا توقع منهم أحد أن يصبحوا ملائكة!

قام عمر رضي الله عنه على المنبر فقال : أيها الناس اسمعوا وأطيعوا! فقال له سلمان الفارسي رضي الله عنه : لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة! قال عمر : ولمه؟ قال : حتى تبين لنا من أين لك هذا البُرد الذي ائتزرت به وأنت رجل طوال لا يكفيك بُرد واحد، كما نال بقية المسلمين! فنادى عمر ولده عبد الله فقال له : نشدتك الله! هذا البُرد الذي ائتزرتُ به أهو بردك؟ قال عبد الله رضي الله عنه : نعم! هو بردى أعطيته لأبي ليأتزر به، لأنه رجل طوال لا يكفيه البرد الذي ناله كبقية المسلمين! فيقول سلمان رضي الله عنه : الآن مُر! نسمع ونطيع!

هذا وعمر رضي الله عنه أمير المؤمنين، وليس أمير جماعة من الجماعات الإسلامية!

ترى كم أميراً من أمراء الجماعات الإسلامية يطيق أن يوجه إليه النقد من أحد أتباعه؟ وكم أميراً يرجع إلى الحق حين يكون الذي وجهه إليه أخ من إخوته في الله، فضلاً عن جندي من جنوده؟!

وحين نكون متجردين لله لا تكون ذواتنا محور اهتمامنا ولا محور تحركنا، ولا نحس بالغيرة من بروز غيرنا -حين يبرز عن جدارة- ولا بالتفاف الناس حوله وإعجابهم به أو إطرائهم له، ولا نعتبر ذلك انتقاصاً لمكانتنا أو عملاً عدائياً موجهاً ضدنا، ولا يدفعنا ذلك إلى محاولة الانتقاص منه أمام أتباعنا، لكي لا يتحول >ولاؤهم> عنا إلى ذلك >المنافس< الذي التف حوله الناس!

وحين نكون متجردين لله لا يكون >الولاء< لأشخاصنا أو لجماعتنا -الأولى أن نقول >حزبنا<- هو محك الحكم على صلاحية الآخرين وجدارتهم، بل يكون المحك هو المحك الرباني {إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}(الحجرات : 13)، وتكون طريقة الحكم على الآخرين هي الطريقة التي أمر بها الله : {ياأيها الذين آمنوا كُونوا قوّامين بالقِسط شُهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوَالِدين والأقربين}(النساء : 135).. {يا أيّها الذين آمنوا كُونوا قوّامين لله شُهداء بالقِسط ولا يجْرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلُوا اعْدِلوا هو أقربُ للتّقوى}(المائدة : 8).

حين لا نكون متجردين لله بالقدر الكافي يحدث كثير مما يحدث في واقعنا المعاصر!

الأمر الثاني الذي نريد أن نركز عليه هو الوعي، هو البصيرة التي ورد ذكرها في الآية الكريمة {قُل هذه سبيلي أدْعُو إلى الله على بَصِيرة أنا ومنِ اتّبعني وسُبْحان الله وما أنا من المُشْركِين}(يوسف : 108).

البصيرة بالنسبة للقاعدة الصلبة ضرورة لا غنى عنها، لأنها هي التي تقرر مسار العمل الإسلامي، متى نكمن؟ ومتى نتحرك؟ كيف نتحرك؟ ندخل في صدام مع السلطة أم نهادنها؟ أم ندخل في تحالف معها؟ نبدأ ببناء القاعدة أم نتوجه إلى الجماهير؟ وحين نتوجه إلى الجماهير فماذا نقول لهم؟ هل نستغل >القضايا العامة<، قضايا الخبز والبطالة، وارتفاع الأسعار، أم نركّز على قضايا التربية وقضايا العقيدة؟ هل نستعرض عضلاتنا أمام أعدائنا أم نعرض عنهم؟ ومن هم أعداؤنا على وجه الدقة؟ هؤلاء المحليون الذين يحاربوننا أم هي الجاهلية العالمية على اتساعها : اليهود والنصارى والمشركون والمنافقون في كل الأرض؟ وعشرات من الأسئلة ومئات لابد فيها من وجود الوعي السياسي والحركي، ووجود البصيرة، لكي نحاول -قدر طاقتنا- أن نرسم خطة سليمة للحركة تحقق أفضل النتائج الممكنة في الظروف المحيطة.

ولنعلم بادئ ذي بدء، أنه ليس هدف الخطة السليمة حماية أشخاصنا من الأذى، فالجاهلية لا تكف عن الأذى بأي حال، ولا تصبر على دعوة لا إله إلا الله! إنما نحاول ألا تؤذى الدعوة من خلال تصرفاتنا!

وليس هدف الخطة السليمة الوصول إلى السلطة أو إلى شيء من السلطة بالتنازل عن مبادئنا وقيمنا التي هي جزء من ديننا ومن عقديتنا بحجة >مجاراة الظروف<، أو أن ذلك في صالح الدعوة!

ولنعلم أولاً وأخراً أن لله سننا لا تتبدل ولا تتحول ولا تجامل ولا تحابى، وأننا إذا تجاهلناها أو توهمنا أننا نستطيع أن نتخطاها فلن نصل في حركتنا إلى شيء!

والبصيرة، منها جزء يكتسب بالتعليم، أي التعرف على السنن الربانية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتدبر التاريخ وأخذ العبرة منه.. والتعرف على أحوال الأمة الحاضرة والأسباب التي أدت إلى الواقع الذي تعيشه الأمة في وقتها الحاضر.. والتعرف على مخططات الأعداء، والطرق التي يتخذونها لمقاومة الإسلام ومحاولة القضاء على الحركة الإسلامية.

ومنها جزء يكتسب بالخبرة من التجارب التي تمر بها الحركة، والنتائج التي تترتب على كل تحرك.

ومنها جزء يكتسب بالتربية، عن طريق المشاورة التي تتم بين القائد وأعوانه، والتي يتم فيها تمحيص الآراء وبيان وجهات النظر، لا التي تتم صورياً بين عدد محدود من الرجال، بين ضغط السمع والطاعة، والتهديد بالإخراج من الجماعة للذين يتكرر منهم الاعتراض! وحين لا توجد هذه البصيرة، أو حين تكون ناقصة، يحدث كثير من التخبط الذي يحدث في واقعنا المعاصر!

××××××××××××××××××××

تلك بعض المواصفات الضرورية في بناء القاعدة، فهل استكملناها حقّا؟

المطلوب الحقيقي من العمل الإسلامي هو هذا على وجه التحديد : إنقاذ الأمة ا لإسلامية مما هي فيه، ومحاولة تحويل الجاهلية عما هي فيه.

وهذا الهدف لا يتحقق إلا بإنشاء جماعة على مستوى فائق، على النسق الذي قامت به الجماعة الأولى على يد المربي الأعظم عليه صلوات الله وسلامه، وإن لم تكن على ذات المستوى، الذي قد يتعذر الوصول إليه في أي جيل من الأجيال.  وذلك يقتضي البدء بإنشاء القاعدة الصلبة وتربيتها على أعلى ما يُتاح لنا من مستويات التربية، وتنقيتها من الشوائب بأقصى ما يُتاح لنا من وسائل التنقية، ثم من بعد ذلك دعوة الجماهير.

ووسيلتنا في التربية هي ذات الوسيلة التي استخدمها المربي الأعظم صلى الله عليه وسلم : تعميق الإيمان بالله واليوم الآخر، وتعميق الصلة بالله، وتعويد النفوس على الحياة في معية الله، والتدريب على ممارسة السلوك الإيماني في عالم الواقع.. ثم تعميق الوعي، بالوسائل التي تؤدي إلى تعميقه، على أن نأخذ في اعتبارنا أن القدوة هي الوسيلة الأولى -والكبرى- في عملية التربية، ثم تأتي بعدها الموعظة والنصائح والدروس، مع الرعاية والمتابعة والدأب والصبر، حتى تستجيب النفوس ثم تستقيم.

جهد ضخم في الحقيقة، وهو على ضخامته لا يؤتى ثماره في يوم وليلة، ولا يمكن استعجاله، ولا يمكن تخطيه، إذا كنا جادين في القيام بعمل ينقذ الأمة مما هي فيه، ويسعى إلى تحويل الجاهلية عما هي فيه!

ذ . محمد قطب

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>