مقال : الولايات المتحدة بين الإفراط في القوة وفي السيطرة “الإرهاب.. سلاح الأقوياء”     2/2 


إن نيكاراغوا وهايتي وغواتيمالا هي اكثر بلدان أمريكا اللاتينية فقراً. وهي في عداد الدول التي غالباً ما شهدت عمليات تدخل عسكري. وليست هذه بالمصادفة العرضية. فلقد حدث ذلك كله ضمن مناخ أيديولوجي اتسم بالتصريحات الحماسية للمثقفين الغربيين. ولأشهر خلت كان هؤلاء يهنئون أنفسهم بنهاية التاريخ والنظام العالمي الجديد ودولة القانون والتدخل الإنساني …الخ. كان هذا كله شائعاً فيما نتغاضى عن فظاعات لا تحصى. والأسوأ إننا كنا نساهم بها في طريقة إيجابية. لكن من جاء على ذكرها؟ قد تكون إحدى مآثر الحضارة الغربية إنها تجعل من الممكن حصول هذا التعارض في مجتمع حر، والدولة التوتاليتارية لا تتمتع بهذه الهبة.

ما هو الإرهاب؟ تحدد الكراسات العسكرية الأمريكية الإرهاب على انه استخدام مدروس للعنف والتهديد بالعنف والتخويف والإكراه لأغراض سياسية أو دينية. والمشكلة في هذا التعريف انه يطاول في شكل دقيق تقريباً ما سمّته الولايات المتحدة حرباً خافتة وتبنيها هذا النوع من الممارسة, في كل حال، عندما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1978 قراراً ضد الإرهاب، تمنعت عن التصويت دولة واحدة هي هندوراس فيما اعترضت عليه دولتان هما الولايات المتحدة وإسرائيل. لماذا اعترضتا؟ بسبب مقطع من القرار يشير إلى إنه ليس المقصود به إعادة النظر في حق الشعوب في الكفاح ضد نظام استعماري أو ضد احتلال عسكري.

وفي تلك الفترة كانت جنوب أفريقيا حليفة الولايات المتحدة. وإضافة إلى هجمات على جيرانه أوقعت خسائر تقدر بستين مليار دولار، كان نظام التمييز العنصري في بريتوريا يواجه قوة تنعت بـ”الإرهابية”، وهي حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. من جهة اخرى، تحتل إسرائيل في صورة غير مشروعة بعض الأراضي الفلسطينية منذ العام 1967 وغيرها من الأراضي اللبنانية منذ العام 1978 حيث تواجه قوة تنعتها هي والولايات المتحدة بـ”الإرهابية” ايضاً وهي “حزب الله”. إن هذا النوع من المعلومات ليس شائعاً في التحليلات التقليدية عن الإرهاب. فلكي يحظى التحليل والمقالات الصحافية بالاحترام من الأفضل أن تقف إلى جانب الجهة الصالحة، صاحبة الذراع الأفضل تسليحاً.

في الثمانينات حصلت أسوأ الانتهاكات لحقوق الإنسان في كولومبيا. وكان هذا البلد المستفيد الرئيسي من المساعدات العسكرية الأمريكية بعد إسرائيل ومصر اللتين تمثلان حالة خاصة. فحتى العام 1999 كانت تركيا تحتل هذا الموقع وقد مدتها الولايات المتحدة بكميات متزايدة من الأسلحة منذ 1984. ليس من اجل تمكين هذا البلد العضو في حلف شمال الأطلسي من مواجهة الاتحاد السوفيتي الذي كان في طور التفكك بل من اجل شن حرب إرهابية ضد الأكراد. ففي العام 1997 تجاوزت المساعدة العسكرية الأمريكية لتركيا مجموع ما حصلت عليه هذه الدولة طوال الفترة الممتدة بين 1950 و 1983 وهي مرحلة الحرب الباردة. وكانت نتيجة هذه العمليات العسكرية: من مليونين إلى ثلاثة ملايين لاجئ، عشرات الآلاف من الضحايا وتدمير 350 مدينة وقرية. وقد زودت الولايات المتحدة قوات القمع ما نسبته 80 في المائة من الأسلحة المستخدمة. منذ العام 1999 تراجعت حدة المعارك مما يدل على ان الإرهاب يحقق نتائج عندما يلجأ إليه مستخدموه الرئيسيون، أي الدول القائمة.

لم تنكر تركيا الجميل إذ بعد ان زودتها واشنطن بطائرات ف-16 لتقصف بها شعبها قامت تركيا عام 1999 باستخدامها لقصف صربيا. وبعد 11 سبتمبر بأيام قليلة أعلن رئيس الوزراء التركي بولنت اجاويد ان بلاده ستشارك بحماسة في التحالف الأمريكي ضد تنظيم ابن لادن. وأوضح ان بلاده مدينة للولايات المتحدة بعرفان جميل يرجع إلى فترة حربها هي ضد الإرهاب.

هناك بلدان أخرى ساندت انقره في حربها على الأكراد لكن لم يعبر طرف عن حماسة وفعالية موازية لواشنطن. وقد استفاد هذا الدعم من صمت النخبة المتعلمة في أمريكا لا بل من تبعيتها. ذلك ان هذه النخبة لم تكن تجهل ما يحدث فالولايات المتحدة بلد حر في النهاية وتقارير المنظمات الإنسانية حول الوضع في كردستان هي في متناول الجميع. لكننا اخترنا في حينه المشاركة في الفظائع.

يشتمل التحالف الراهن ضد الإرهاب متطوعين آخرين من الصنف المختار. كما أوردت مجلة “كريستيان ساينس مونيتور” وهي من افضل الصحف في معالجة الأخبار الدولية ، مشيرة إلى ان بعض الشعوب التي لم تكن تحب الولايات المتحدة بدأت تحترمها بعد ان رأت كيف إنها تقود حربا ضد الإرهاب. ويعطي الصحفي المختص بالشئون الأفريقية الشعب الجزائري مثالا على هذا التغير في الموقف. نسيربما ان الجزائر تخوض حربا إرهابية ضد شعبها. كما التحق بالولايات المتحدة كل من روسيا التي تخوض حربا إرهابية في الشيشان والصين التي ترتكب الفظائع بحق من تعتبرهم انفصاليين من المسلمين.

لكن ما العمل في الوضع الراهن؟ يشير شخص متطرف مثل البابا بأن التصرف أمام جريمة 11 سبتمبر هو البحث عن الفاعلين ومن ثم محاكمتهم. لكن الولايات المتحدة لا ترغب في اللجؤ إلى الأشكال القانونية الاعتيادية، فهي تفضل عدم تقديم أي برهان وتعارض وجود عدالة دولية. واكثر من ذلك، عندما طالبت هايتي بتسليمها السيد ايمانويل كونستان لمسئوليته عن مقتل آلاف الأشخاص بعد الانقلاب الذي أطاح الرئيس جان-برتران اريستيد في 30 سبتمبر 1991 ورغم تقديمها أدلة على تورطه، لم تلق من واشنطن أي استجابة. حتى ان الطلب لم يؤدِّ إلى أي نقاش حول المسألة.

ان مكافحة الإرهاب تفرض الحد من مستوى الأعمال الإرهابية وليس زيادته. عندما يرتكب الجيش الجمهوري الايرلندي اعتداء في لندن لا يقوم البريطانيون بتدمير بوسطن حيث للجيش الجمهوري الايرلندي العديد من الأنصار ولا بتدمير بلفاست. ان إحدى الوسائل للحد من مستوى الإرهاب يكون في التوقف عن المساهمة فيه. ومن ثم التأمل في التوجهات السياسية التي أوجدت هذا المخزون من الدعم الذي استفاد منه في ما بعد مدبرو الاعتداءات. وربما يكون وعي الرأي العام الأمريكي في الاسابيع الماضية لمختلف الوقائع الدولية التي لم يكن يدري بوجودها سوى النخب، ربما يكون خطوة في هذا الاتجاه.

الكـاتـب الأمـريكي  : نعـوم شــومسكي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>