خطب منبرية : بعض مظاهر الفساد في الأرض


الحمد لله الذي خلق العوالم كلها و بدأ خلق الإنسان من طين ثم سواه و نفخ فيه من روحه و جعل نسله من ماء مهين و رزقه السمع و البصر و الفؤاد ليشكر هذه النعم لا ليكفرها و نهاه عن الفساد في الأرض و الإفساد و أخبره على لسان نبيه أنه لا يحب المفسدين لا إله إلا هو الملك الحق المبين و الصلاة و السلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد سيد المرسلين و إمام المتقين ثم أما بعد :

أيها الإخوة المومنون :

إن الفساد في الأرض معناه خرابها  و هو سبب كبير من أسباب تغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها و الفساد محرم شرعا بالأدلة القاطعة و الحجج الدامغة و هو صفة من صفات اليهود أحفاد القردة و الخنازير قال تعالى : {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين و لتعلن علوا كبيرا} ( الإسراء الاية 4) و قال تعالى : {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم و لعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء و ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا و كفرا و ألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله و يسعون في الأرض فسادا و الله لا يحب المفسدين } (المائدة الآية 66) .

عباد الله : للفساد مظاهر تفر منها النفوس الطيبة وتعافها الطباع السليمة و تأباها الفطرة النقية و لا تقبلها الضمائر الحية ، و الفساد سواء كان في الأرض أو المال أو الدين فإن أصحاب القلوب الحية لا تقبل به و لا تقر أصحابه عليه لأنه نذير الخراب و بريد الهلاك ، فمن مظاهره التي لا يمكن السكوت عنها  ما نراه اليوم من أكل لأموال الناس بالباطل سواء كان بالغصب أو السرقة أو الارتشاء كل واحد من هذه الأشياء معول من معاول الهدم للكرامة الإنسانية ولعزتها و شرفها فمتعاطي هذه الخصال الذميمة يفقد كرامته و تضيع مروءته و سمي أكل مال الناس بأي وجه من الوجوه غير المشروعة فسادا لأن الله تعالى قال  فيما حكاه عن إخوة يوسف  بعدما جعل يوسف المكتل في رحل أخيه و نادى مناديه : {أيتها العير إنكم لسارقون} (يوسف الأية 70). بعد ذلك أقسم إخوة يوسف بالله أنهم ما جاءوا ليفسدوا في الأرض، قال القرءان الكريم فيما حكاه عنهم : {تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض و ما كنا سارقين} (يوسف الآية 73) قال القرطبي رحمه الله تعالى : (إنهم كانوا لا ينزلون على أحد ظلما و لا يرعون زرع أحد وأنهم جعلوا في أفواه إبلهم الأكمة ليلا تعيث في زرع الناس.

و من مظاهر الفساد في الأرض ما نراه في زماننا من التبرج و السفور و الاختلاط و انفراد بعض الشباب بالفتيات في الشوارع و الأزقة و لا سيما النواحي المظلمة من الطرقات كل ذلك يعد من الفساد في الأرض ومنه الزنا المحرم كتابا و سنة وإجماعاهو داء العصر و سرطانه ،و مضاره الدينية والدنيوية غير خافية على ذوي البصائر النيرة ، فمعظم الأمراض التي استعصي علاجها على علماء الطب في العالم كله تكون ناتجة عن الزنا – و العياذ بالله – و سماه الله تعالى فاحشة فقال : {و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} سورة الإسراء الآية 32 . و قال صلى الله عليه وسلم : (لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن …) -رواه مسلم -. و سألت إحدى أمهات المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أنهلك و فينا الصالحون ، قال نعم إذا كثر الخبث) رواه البخاري و غيره . و لذلك أغلظ الله تعالى في العقوبة على الزاني إذا كان محصنا و جعلها الرجم و جلدا و تغريبا إذا كان عزبا و هذه العقوبة – التي هجرت اليوم – كادت لشهرتها و وضوحها تكون من المعلوم من الدين بالضرورة التي يكفر جاحدها .

و من مظاهر الفساد أيها الإخوة ما ابتلي به المسلمون من غش و تطفيف للمكيال و الميزان ضاربين بعرض الحائط قول الله تبارك و تعالى : {و يل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون و إذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} (المطففين الآيات 1- 2 -3 )  و نظرا لقبح هذه الصفة – التطفيف – وضح الله تعالى متعاطيها حيث قال : {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين} (المطففين الآيات 4 – 5 – 6) . و التطفيف خلق ذميم و هو قديم كان في قوم شعيب ، قال الله تعالى : {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره و لا تنقصوا المكيال و الميزان إني أراكم بخير و إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط و يا قوم أوفوا المكيال و الميزان بالقسط و لا تبخسوا الناس أشياءهم و لا تعثوا في الارض مفسدين} (هود الآيتان 83 – 84) .

و من مظاهر الفساد في الأرض بل هو أعظمها ما نراه من تجدد لانتشار العرافين و العرافات بأسلوب جديد و عصري ،و هذا تطاول على علم الغيب الذي خص الله تعالى به نفسه أو من شاء من رسله ، قال الله تعالى : {وما كان الله ليطلعكم على الغيب و لكن الله يجتبي من رسله من يشاء} سورة آل عمران الآية: 179 .و قال تعالى : {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا} (الجن الآيتان 26 – 27 ).

و لقد سمى الله تبارك و تعالى المشرك مفسدا و توعده بالعذاب الدائم الغير المنقطع إذا مات على شركه قال تعالى في الطاغية الكبير فرعون : {حتى إذا أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل و أنا من المسلمين آلان و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين} (يونس الآيتان 90 – 91). و قال عنه أيضا : {إن فرعون علا في الأرض و اتخذ أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم و يستحي نساءهم إنه كان من المفسدين} (القصص الآية 3 ).

و المفسد ايها الإخوة لا يرفع الله له إلى السماء عملا و لا يقيم له يوم القيامة وزنا لأن الله تعالى يقول : { إن الله لا يصلح عمل المفسدين} (يونس الآية 81 ). و اقتضت حكمة الله تعالى أن يبعث الرسل و الأنبياء و كذلك من بعدهم العلماء و الدعاة لقطع الطريق على الفساد حتى لا ينتشر شره و يعم ضرره و تصاب بدائه الدنيا كلها ، قال تعالى : {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن الله ذو فضل على العالمين} ( البقرة الآية 249 ).

قال القرطبي رحمـــه الله : (الدفع بما شرع على ألسنة رسله من الشرائع و لولا ذلك لتسالب الناس و هلكوا) جعلني الله و إياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب .

üüüüüüü

الحمد لله حق حمده و ما كل نعمة إلا من عنده و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه أيها الإخوة المسلمون إن المسلمون ليدعى إلى هذه المفاسد التي تحدثنا عن بعضها سرا و علنا سواء أدرك عواقب ذلك أم لم يدرك ، إن ما ينشر في بعض الصحف و الجرائد و المجلات من دعوة صريحة إلى الزنا و الإشراك بالله تعالى لهو منكر عظيم من المناكر التي يجب تغييرها فالواجب على المسؤولين في هذه الأمة القيام بتغيير هذا المنكر و الضرب على أيدي المتلاعبين بدين الله تعالى المغيرين لفطرته . إن نشر عناوين لبعض العرافات في بعض الجرائد و الصحف الوطنية و كذلك قراءة الأبراج و كذلك رأسا لرأس و هلم جرا يرجع بالأمة الإسلامية إلى عصر الجاهلية الأولى التي كانت تحتكم إلى الكهان وتستقسم بالأزلام .

أخرج أحمد و مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما ) ، و روى الطبراني في الكبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من أتى كاهنا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة، و إن صدقه بما قال كفر).

أيها الإخوة المسلمون إن أي أمة تقاعست عن تغيير المنكر أوشك يعمها الله بعقاب منه لذلك نجد أن الله تبارك و تعالى لعن بني إســراءيل في القرءان العظيم بسبب سكوتهم عن المنكر و عدم القيام بتغييره . قال تعالى : {لعن الذين كفروا من بني إسراءيل على لسان داوود و عيسى ابن مريم ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبيس ما كانوا يفعلون} (المائدة الأيتان 80 – 81 ). وكانت خيرية الأمة الإسلامية في القيام بتغييرها للمنكر . قال تعالى : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر و تومنون بالله} (آل عمران الآية 110).

و أخرج الترمذي في الفتن من حديث أبي بكر ( أنه قال : = أيها الناس إنكم تقرأون هذه الأية : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . و إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن الناس إذا رأوا الظالم فلم ياخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)، و أخرج البخاري في صحيحه و كذلك الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مثل القائم على حدود الله و الواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة …) الحديث.

< محمد بن احمد الصديق

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>