فضاءات دعوية : دور التربية على المبادئ في نشأة القاعدة       (11) : جاهلية اليوم : غربة الإسلام وبدعة التشريع بغير ما أنزل الله


لم يكن إنشاء القاعدة الصلبة ترفّا، ولا كان الجهد الضخم الذي بذله رسول الله  في تربيتها أمراً زائداً على الضرورة، بل كان بإلهام الله وعونه وتوفيقه، ألزم شيء لهذا الدين، وللشأن الهائل الذي أنزل الله من أجله هذا الدين.

والآن فلننتقل إلى واقعنا المعاصر، لنتعرف على صورته الحقيقية، وعلى موضع القدوة فيه من منهج الرسول  في تربية القاعدة الصلبة التي حملت أول مرة أعباء هذا الدين.

حال الجاهلية اليوم

يقول ابن تيمية رحمه الله : >فأما بعدما بعث الرسول ، فالجاهلية المطلقة قد تكون في مصر دون مصر كما هي في دار الكفار، وقد تكون في شخص دون شخص، كالرجل قبل أن يسلم فإنه يكون في جاهلية وإن كان في دار الإسلام، فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث محمد  فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة، والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين، وفي كثير من المسلمين<(1).

فإذا كان هذا في القرن الثامن الهجري والمسلمون بعدُ متمسكون بكثير من أمور دينهم، وإن كانوا مفرطين في كثير.. فكيف لو رأى ابن تيمية رحمه الله واقعنا المعاصر.. ماذا كان يقول فيه، وقد فشت بدعة التشريع بغير ما أنزل الله، والمنع والإباحة بغير ما أنزل الله، فأصبح تحكيم شريعة الله ممنوعاً بنصوص الدساتير، والمطالبة به جريمة تطير من أجلها الرءوس، ويعذب من أجلها الألوف ومئات الألوف في السجون.. وأصبح عُريُ النساء أصلاً من الأًصول، وتحجبهن -كما أمر الله- بدعة منكرة تهاجمها وسائل الإعلام بشتى وسائل الهجوم.. وأصبح”القانون” يحمي ارتكاب الفاحشة مادام يتم برضى الطرفين، كأنما الطرفان وحدهما -هما أصحاب الشأن في القضية، والله سبحانه وتعالى لا دخل له، ولا يجوز له عُرف في الجاهلية أن يكون له دخل في الأمر، وليس هو سبحانه الذي يمنع ويبيح، وأصبح الولاء والبراء في الله ولله قضية من قضايا التعصب المقيت، لا يتقبلها ذوق العصر، فقد أصبح العالم بفضل وسائل الاتصال كالقرية الواحدة، لا يجوز لأحد أن يشذ عن أعرافها وتقاليدها وأفكارها بحجة من الحجج، والدين خاصة هو أشد الحجج مقتاً وإغراقا في التعصب المقيت! وأصبح.. وأصبح.. وأصبح..!

كيف كان ابن تيمية رحمه الله سيقول لو رأى الواقع المعاصر في الغرب، وفي كثير من أقطار الإسلام؟

ما المطلوب من الغرباء اليوم؟

>بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء<.

ما المطلوب من الغرباء اليوم؟ وما ذلك الشيء العظيم الذي يستحقون عليه هذه الكرامة عند الله؟

إن كل جهد يقوم به الغرباء لإزالة الغربة الثانية للإسلام مأجور عند الله، بنص كتابه الكريم  : {ذلك بأنّهم لا يُصِيبهم ظمأ ولا نصبٌ ولا مخْمصة في سبيل الله ولا يطَأون موطئاً يغِيظ الكفّار ولا ينالُون من عدوّ نَيْلا إلا كُتب لهم به عملٌ صالح إن الله لا يُضيع أجر المُحسنين، ولا يُنفقون نفقةً صغيرةً ولا كبيرة ولا يقْطَعون وادياً إلا كُتِب لهم ليَجْزِيهم الله أحْسن ما كَانُوا يَعْملون}(التوبة : 120- 121).

ولكن هذا لا يمنع أن يكون للغرباء خطة يسيرون عليها، وأولويات يرتبونها في العمل الذي يقومون به لإزالة الغربة عن الإسلام في واقعه المعاصر.

فهل يصلح العمل بغير قاعدة صلبة تنتقل الدعوة منها إلى الجماهير؟.

نقول بادئ ذي بدء : إننا لا نطمع -ولا يطمع أحد- في إنشاء قاعدة على مستوى القاعدة التي أنشأها رسول الله ، سواء بالنسبة للقاعدة الصلبة أو القاعدة الجماهيرية.. ومع ذلك فهناك مواصفات ضرورية لا يقوم البناء بدونها مهما كلفنا توفيرها من الجهد ومن الزمن ومن المعاناة.

إننا لا نطالب أحداً أن يحلّق في الآفاق العليا التي حلّق فيها صحابة رسول الله  في تمكن وقوة، فذلك أصلاً غير ملزم لأحد.. وإن كان هناك أفراد على مدى التاريخ الإسلامي لم ينقطع مددهم قط، يرتفعون بأنفسهم إلى تلك الآفاق، ولكنا نطلب السير بالأقدام على أرض الالتزام، أو حتى قريباً منها، لكي يكون عملنا مقبولاً عند الله، ومؤهلاً بإذن الله للنجاح.

فما المواصفات المطلوبة في القاعدة الصلبة، التي تقوم بدورها بإنشاء القاعدة الجماهيرية وتوجيهها وتربيتها.

هل يصلح لها أي إنسان بمجرد أن يؤمن بالله واليوم الآخر، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويكون من الخاشعين؟ إن هذه كلها مواصفات عظيمة، وكلها مطلوبة، ولكن على أي درجة هي مطلوبة؟ وهل هي وحدها المطلوبة بالنسبة للقاعدة الصلبة خاصة؟

أضرب مثلاً، لو سألت إنساناً في الطريق : من الذي يرزقك؟ فسيقول بلا شك : الله! فلو أوذي في رزقه قال : فلان من الناس يريد أن يقطع رزقي، فهل يكون الإيمان بتلك الحقيقة، وهي أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، قد تعمق في حسه حتى أصبح يقيناً قلبياً يترتب عليه سلوك؟ أم يكون في حاجة إلى تعميق إيمانه حتى يصل إلى درجة اليقين؟ وكذلك حقيقة أن الله هو الضار النافع، وهو المحيي المميت : {ومن النّاس من يقُول آمنا بالله فإذاَ أُوذِي في الله جعل فتنة النّاس كعذاب الله}(العنكبوت : 10).

هل يصلح هذا لبنة في القاعدة الصلبة التي تحمل البناء؟ وهل يثبت في الابتلاء، والابتلاء سنة من سنن الله : {ألم، أحسب النّاس أن يُتْركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفْتنون ولقد فتنّا الذين من قبْلِهم فلَيَعْلمن الله الذين صدَقُوا وليعلمنّ الكاذِبين}(العنكبوت : 1- 3).

والفتنة ليست بالعذاب وحده، فهذه قد يحتملها كثيرون : {ونَبْلُوكُم بالشّر والخير فتْنة}(الأنبياء : 35).

وفتنة الخير أخطر، لأنها تعصف بكثير من الناس، يصمدون في فتنة العذاب، ولكنهم لا يقوون على الصمود أمام إغراء المال والسلطة والجاه والمناصب وكثرة الأتباع والأعوان.. فهل كل من ثبت في محنة يصلح أن يكون لبنة في القاعدة الصلبة فضلاً عن أن يكون من قياداتها؟

وأضرب هنا مثلاً آخر أشرتُ إليه من قبل في كتاب واقعنا المعاصر :

الأخوة معنى من المعاني الجميلة التي يمكن أن يصاغ حولها الكلام المنمق المؤثر العذب، وهي من معاني الإسلام الأصيلة، ومن الركائز التي اهتم الرسول  بترسيخها في القاعدة الصلبة التي أنشأها حين آخى بين المهاجرين والأنصار فصارت أخوة أقوى من نفوسهم من أخوة الدم، وهي أوثق ما كانت توثّقه الجاهلية العربية.

وكما قلت في كتاب (واقعنا المعاصر) : الأخوة يمكن ممارستها بسهولة والناس في سعة من أمرهم، فهي لا تكلف كثيراً في تلك الحالة، ولكن إذا ضاقت الطريق بحيث لا أستطيع أن أسير وأخي متجاورين، بل لابد أن يتقدم أحدنا على الآخر، فهل أقدّم نفسي أم أقدّم أخي؟ ولا حاجة بنا للارتفاع إلى المستوى السامق الذي يضيق فيه الطريق أكثر، فتصبح الفرصة متاحة لواحد دون الآخر، إما أنا وإما أخي، فذلك مستوى غير ملزم، وهو الذي وصفه سبحانه وتعالى بقوله : {ويُوثِرون على أنْفُسِهم ولو كان بهم خصاصة}(الحشر : 9).. والذي كان شيئاً عادياً في هذه القاعدة التي أنشأها رسول الله ، وأصبح اليوم شيئاً بعيد المنال.

< ذ محمد قطب

—–

1- اقتضاء الصراط المستقيم  ص : 78- 79.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>