قضايا فقهية معاصرة : مشكلة الفقر : الوقاية والعلاج في المنظور الإسلامي (6) : من أسباب الفقر : الجهل


الجهل المقصود في هذا المقام هو الجهل بالعلوم الكونية والتكنولوجية المتطورة التي تمكن الإنسان من استغلال كل ما سخر الله له في هذا الكون، وما حباه به من ثروات في البر والبحر والجو، وتؤهله للاستفادة التامة منها في تحسين معيشته والرفع من مستواه في مختلف الميادين الحياتية والتغلب على الصعوبات التي تواجهه صباحا ومساء.

هذا النوع من الجهل يعتبر في العصر الحاضر مسؤولا رئيسيا عن فقر كثير من الدول والشعوب، وسببا في تخلفها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.. ومانعا من تقدمها وازدهارها رغم ما تزخر به أرضها وسماؤها وبرها وبحرها من ثروات طبيعية هائلة ومتنوعة تستنزفها الدول الصناعية والشركات الأجنبية بفضل تقدمها العلمي والتكنولوجي مقابل عائدات هزيلة تسلمها لأصحاب الأرض، لكنها سرعان ما تسترجعها منها بمختلف الطرق والوسائل ولا تترك لها إلا المشاكل والحروب الأهلية.

والعلوم الكونية بالرغم من جدتها وحداثتها، فإنه لا يمكن أن يغيب عن علم الإسلام ما يشكله الجهل بها من خطر على اقتصاد الأفراد والشعوب والدول. وما يسببه لها من فقر وبؤس وشقاء وحرمان، ولا يمكن لشريعته أن تتساهل معه، أو يفوتها التنبيه إليه، ووضع الأسس السليمة لمقاومته وتقديم الحلول للوقاية منه ومن شروره.

أولا لأن الإسلام وحي من الله العليم الحكيم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء حاضرا ومستقبلا.

وثانيا لأن الإسلام هو خاتم الأديان، صالح لكل زمان ولابد له من حل كل المشاكل الطارئة والمستجدة على أهله وبيئته، وهو ما تكفلت به شريعته ومقاصده، والمتتبع لنصوصه ومقاصده، الخبير بأصوله وفروعه يمكنه أن يلحظ ما جاء به الإسلام وما شرعه من أحكام للوقاية من الجهل بصفة عامة، والجهل بالعلوم الدنيوية أو الكونية بصفة خاصة، يمكنه ملاحظة ذلك من خلال مبادئه وفرائضه ومن خلال نصائحه وتعالميه ومن خلال آ دابه وأخلاقه، ومن خلال كتاب الله وسنة رسوله  مثل قوله تعالى : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، وقوله  : >اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني<، وقوله : >طلب العلم فريضة<، وقوله : >الحكمة ضالة المومن يلتقطها حيث وجدها<.

هذه الآيات والأحاديث و تلك المبادئ والتعاليم تتضمن دعوة واضحة إلى تعلم جميع العلوم وإتقانها والتخصص فيها والاستفادة منها بما في ذلك العلوم الكونية.

وهو وإن كان لا يسمي هذه العلوم بأسمائها المصطلح عليها، ولا يقدم دروسا فيها أو شروحا لها، إلا أن كثيرا من الفرائض الدينية والواجبات الشرعية والتعاليم الإسلامية بصفة عامة لا يمكن إنجازها والقيام بها على الوجه المطلوب إلا بمعرفة تلك العلوم وإتقانها، ومن القواعد الأصولية أن الأمر بالشيء أمر بما يتوقف عليه ذلك الشيء، وهي القاعدة المعروفة بقاعدة ا لمقدور الذي لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب.

وهكذا عندما يقول الرسول  : >أيها الناس تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد : الهرم<،  فإن هذا النداء وهذا الأمر بالتداوي يشكل دعوة عامة وأمرا عاما بتعلم العلوم الطبية والصيدلية بجميع تخصصاتها وفروعها وصناعة الأجهزة الضرورية لذلك، لأن التداوي المأمور به في الحديث يحتاج إلى تشخيص الداء ومعرفة الدواء وطرق العلاج والأجهزة الضرورية لذلك.

وعندما يقول في الحديث الآخر : >اطلبوا الرزق في خبايا الأرض< فإن هذا يعتبر دعوة إلى تعلم جميع العلوم المتصلة بالأرض ودراستها لمعرفة ما يصلح له ظاهرها وما يختزنه باطنها من المعادن النفيسة وصناعة الأدوات والآلات الضرورية لاستغلال ظاهرها والتنقيب عن معادنها واستخراجها.

وهكذا الشأن عندما يقول الله تعالى : {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين لا تعلمونهم} فإن هذه الآية تشكل أيضا دعوة وأمرا قاطعا بتعلم كل الفنون الحربية والصناعات العسكرية من ألفها إلى يائها من الحجارة والرصاصة إلى القنبلة الذرية، ومن المقالع والعصي إلى الصواريخ والمدافع حتى يتحقق الهدف المقصود وهو إرهاب العدو ليكف أذاه عن المسلمين وما دام المسلمون لم يصلوا إلى هذا المستوى من التفوق العسكري، مستوى ارهاب العدو، فإنهم يعتبرون مقصرين مسؤولين أمام الله لم يمتثلوا أمره ولم يحققوا إرادته.

ومثل ذلك نقول عند ما نقرأ قوله تعالى : {فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} فإننا نستنتج منه أمرا بتعلم علوم الفلك للاستدلال بها على معرفة القبلة وجهتها التي لا تعرف إلا بمعرفة ذلك.

ودون أن نطيل في تتبع النصوص والتعاليم التي لا يتم إنجازهاإلا بمعرفة العلوم الكونية من طب وفلك وهندسة وغير ذلك مما هو معروف، وما يمكن أن يعرف مستقبلا من العلوم النافعة، فإنه يمكن القول :

إن الإسلام دعا ويدعو إلى معرفة كل العلوم التي يحتاجها الإنسان في حياته الدنيا وحذر من الجهل بها. وهذا ما فهمه فقهاؤنا الأقدمون، فوضعوا تلك العلوم في خانة الفروض الكفائية التي يجب على الأمة جميعا تعلمها والقيام عليها، وبالقدر الذي يحقق لها الاكتفاء الذاتي ويغنيها عن الالتجاء إلى غيرها في كل ما تحتاج إليه في حياتها في السلم والحرب إذا تركته الأمة أثم الجميع.

وبهذا الموقف الإسلامي من الجهل بصفة عامة والجهل بالعلوم الدنيوية بصفة خاصة، يصح القول إن الإسلام سد بابا من أبواب الفقر وأغلق نافذة من نوافذه التي يتسرب منها إلى الأفراد والشعوب.

العلامة  د. محمد التاويل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>