تجذر هوس العنف في العقلية الأمريكية


على إثر حوادث مدينتي نيويورك وواشنطن ضج الإعلام بما لا حصر له من التعليقات والتحليلات والاستنتاجات تكشف عن تضارب الآراء والاتجاهات نظرا لتضارب المصالح. ولم تعرف الحوادث في العالم المعاصر -نظرا لمكانة أمريكا في العالم- ما عرفته حوادث تفجير البانتجون ومركز التجارة العالمية من البحث المحموم عن جني مكاسب حتى بدا الأمر وكأنه توزيع تركة، غير أنها تركة مصالح. فما أن تم الاعلان عن وقوع الحوادث الدرامية التي فاقت خيال هوليوود حتى بادر أصحاب الفزِّ الى القفز من خلال التلميح وأحيانا  حتى التصريح بنصيبهم في المكاسب ذارفين جالونات من دموع التماسيح الغزيرة. لقد سارع الارهابي شارون إلى حشر نفسه في خندق واحد مع أمريكا، ولم يتردد في إلصاق التهمة بضحاياه من الفلسطينيين مستبقا كل تحقيق في بلد تدار فيه التحقيقات بواسطة جهاز عتيد لا تغيب عنه غائبة. وجاد الزعيم الروسي على أعداء الأمس بمساعدات سخية محاولا الوصول إلى الخندق ا لذي سبقه اليه شارون، ولم تفلت منه الفرصة للاشارة الى شوكة الشيشان العالقة في خاصرته لعله يوهم بوجود علاقة ما بينها وبين ما وقع أو على الأقل يكسب العطف الذي يسدل الستار على جرائمه ضد المسلمين في الشيشان. ولم تكن دموع زعماء أوربا أقل غزارة من دموع شارون ولا هرولتهم نحو خندقه أقل من هرولته وهم خدام أمريكا الأوفياء. وفي الجانب الآخر من العالم الثالث كانت حمى الوجل من الأسد الجريح بلغت حد تبرع رئيس السلطة الفلسطينية بدم هو في أشد الحاجة إليه علما بأن عدسة الكاميرا لم تصوره يوما وهو يضخ دمه في شرايين  آلاف الضحايا من أبناء وطنه الجريح. وبدافع الوجل هب الأفغان المغضوب عليهم إلى دفع التهم عن أنفسهم وهم يعلمون أن محاكم نيرون ستوقع بهم العقاب لا محالة. وسارعت الجاليات العربية والاسلامية المغلوبة على أمرها في المهجر إلى بتر جذورها مع مواطنها الأصلية محتمية بجنسياتها المكتسبة خشية النقمة.

وموازاة مع موجة التنديد والتضامن والتعاطف والخوف في جو من الشموع والوقفات والصلوات والقداسات والتبرعات لم يهدأ هوس العنف المتجذر في العقلية الأمريكية، حيث صادق الكونجرس على حرب لا يعرف طرفها الآخر بميزانية قدرها أربعون ألف مليون دولار، وتم استدعاء الاحتياطي من الجنود وتحركت البوارج وحاملات الطائرات في كل رقعة من رقع العالم. وبدأت سياسة طي الذراع للدول الاسلامية والعربية للزج بها في مصير مجهول من شأنه أن يروي التعطش للدماء والدمار. وغابت شعارات الحكمة والتعقل التي تطلقها أمريكا في مثل هذه الظروف لغيرها من الدول المنكوبة، لأن السياسة فيها تدار من كواليس يقبع فيها لوبي يهودي يمسك بزمان الأمور اقتصاديا. وتبخر شعار المجتمع الحر المتقدم الذييحكمه القانون ومنعه الصلف حتى من مجرد استشارة صورية لمجتمع دولي موهوم. ومن الغريب أن تعود عصور العصبية فجأة بعد ثورة تكنولوجية عالية تصدر عبارات التهديد العشوائي بأساليب ليتها ترقى إلى أسلوب الأعرابي في جاهلية العرب حيث يقول حين يهدد :

حتى نبيد قبيلة وقبيلة

قهرا ونفلق بالسيوف الهام

ويقمن ربات الخدورحَوَا سِرًا

يمسَحْن عرض ذوائب الايتام

وما أكثر رأفة هذا التهديد الجاهلي الذي يبقى على النساء والأطفال أحياء مقابل تهديد المجتمع الحر الذي يتحدث عن مسح أقطار بكاملها من البسيطة.

وضجت الصحافة الأمريكية ذات العداء التقليدي للاسلام بالتهم ضد متهمين أشباح منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. وتابعت الصحافة الببغاء في أوربا صحافة أمريكا حتى أنه حطمت أرقاما قياسية في نقل المتناقض من الأخبار في الدقيقة الواحدة التي لم تعد تتسع لزخم المرجفين. ولم تخل منصة الخطابة داخل قاعاتالمؤتمرات الصحفية من مسؤولين يتناوبون لترديد عبارة الوعيد بالويل والثبور وعواقب الأمور التي تشق طريقها الى بلاد المسلمين. وأغرب ما في هذه الكوميديا الإعلامية أنها لم تنطق ولو مرة واحدة باسم أعجمي وكأن التفجيرات وقعت في عاصمة عربية اسلامية. وأبدع المحللون في فنون الطروحات السياسية والاقتصادية للأزمة، وبدأنا نسمع عن ثروات بحر قزوين التي تنتظرها الأفواه الفاغرة بشراهة غير معهودة، كما بدأنا نسمع عن فكرة إعادة رسم خريطة العالم وكأني بالعولمة تخطو خطوتها الأولى عسكريا وذلك من خلال حرب دونكيشوتية عالمية ثالثة.

ويبقى السؤال المطروح : من المسؤول عن حوادث أمريكا؟ ولم يخطر بالبال سؤال : لماذا لجأت أمريكا إلى هذه الكوميديا ذات الأبعاد التراجيدية؟

لقد تحدث الخبراء عن حجم التفجيرات وعن طبيعة العمليات المتسببة فيها فأجمعوا على أنها تفوق إمكانات أعداء أمريكا التقليديين كأسامة بن لادن وصدام حسين، ومع ذلك لم تبرأ ساحتهما. ولم نسمع بالعديد من الفرضيات التي قد يفرضها المنطق في بلد أعداؤه كُثْر لا يحصيهم العد. فمن يمنع النظام الأمريكي ذا الجهاز المخابراتي العتيد الذي يرقب العالم من حوله بعين لا تنام من صنع تلك الأحداث لغرض في نفسه؟ ومن يمنع المواطن الأمريكي العادي حين يُخلى بينه وبين حريته من طرح هذا الافتراض؟ ومن يمنع أن تكون اسرائيل هي المسؤولة والسياسة الأمريكية في يد اللوبي اليهودي الذي أحرج النظام الأمريكي مرارا وآخرها في مؤتمر جنوب افريقيا ضد العنصرية؟ ومن يمنع اليمين الأمريكي المتطرف من فعل فعلته، أولم ينسب تفجير “أُوكْلَاهُومَا” من قبل للإسلام، فلما تبين الفاعل غض الطرف عن عقيدته؟ ومن يمنع الجنود الأمريكان الناقمين من قصف قيادتهم التي طوحت بهم في جحيم حوب لا شأن لهم بها؟ ومن يمنع مناهضي العولمة داخل أمريكا من تفكيكها بالمتفجرات بعدما عجزت عن ذلك المظاهرات؟ ومن يمنع روسيا والصين من الوقوف وراء الأحداث انتقاما لكبريائهما الجريحة على يد الأمريكان؟ ومن يمنع الصرب من صنع الأحداث وقد أهينوا في كرامتهم حتى أن رمزهم نقل ذليلا إلى سجون “لاهاي” ومحاكمها؟ ومن يمنع كوبا من أن تكون لها يد خفية في الأحداث وهي التي ناصبت أمريكا العداء لعقود طويلة ولم يمنعها ذلك من البكاء مع التماسيح؟ ومن يمنع مافيا المخدرات في جارات كوبا من هذا العنف وهم أهل عنف وأصحاب مصالح تهددها أمريكا؟ ومن يمنع اليابانيين من توجيه ضربة لحلفائهم وقد أهينوا شر إهانة في الحرب العالمية الثانية وما زالوا تحت السيطرة الأمريكية؟ وبعد هذه التساؤلات التي لا يمكن أن تصرفها التهديدات عن الأذهان، تأتي الفرضية التي تطرب صحافة اللوبي اليهودي، وهي فرضية لها تساؤلات من طبيعة أخرى بعد تساؤل إجمالي : من يمنع قاسم العداء المشترك لأمريكا من اتهام العالم بأسره؟ هل سيتردد أسامة بن لادن الذي أهدر دمه في أمريكا في طلب الموت لمن يريد قتله؟ وهل سيتردد العرب الذين سقط لهم ضحايا على يد اسرائيل المدعومة من طرف أمريكا في رؤية ما يشفي غليلهم؟ ألم يطو النسيان مآسي صبرا وشتيلا التي أخرست بسببها عدالة بلجيكا المتجاسرة على إسرائيل؟ ألم يطو النسيان فاجعة الطائرة المصرية؟ ألم يطو قصف ليبيا والسودان، وتدمير العراق؟ فماذا ينتظر من عرب سامتهم أمريكا الخسف إن وجدوا إلى مصالحها سبيلا؟ وقد تتوالى الأسئلة إلى ما لا نهاية، ولكن الأهم في هذا الظرف ليس هو معرفة الجاني بقدر ما هو معرفة الضحية التي حددت بعض معالمها نيران هوس العنف المتجذر في العقلية الأمريكية من خلال تصريحات شبه رسمية تدين الإسلام الذي يحاول قيادة سفينة البشرية إلى بر الأمان في عالم يعج بالظلم والطغيان في غياب الرقيب الذي غيبته العولمة.

وإلى أن يجد جديد المستهلك من الأخبار -وما أظن الجديد كائنا- ستكون لنا وقفة أخرى مع حدث الساعة ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ذ.

شرگي محمد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>