الشعر النبوي، بين الجفاء  والوفاء قراءة في الشعر النسائي المغربي من خلال حكيمة الشاوي وأمينة المريني


يتميز المشهد الثقافي ببلادنا بمحاولة تصنيف الإنتاج الأدبي إلى خطاب ذكوري وخطاب أنثوي؛ وهذه اشكالية كبرى لا تحظى بإجماع النقاد والمبدعين أنفسهم على ضرورة طرحها؛ فالأصل في كل إبداع مهما كان مصدره -ذكرا أو أنثى- أن يُعبر عن القضايا والهموم الإنسانية المشتركة؛ ويُترك للناقد مشروعية تفكيك مجمل الخطاب واستشفاف عناصر القوة والإجادة والعمق الجمالي دونما التفَات إلى ماهية المبدع هل هو من الجنس الذكوري أو  الأنثوي ؟!!!

إلا أن بعض معاصرينا يحاولون الانزياح بالنقد والتحليل إلى هذا التصنيف المشين لجوهر العملية النقدية، توزيعُ العمل الأدبي إلى حقلين منفصلين يتحرك النقد والنظر فيهما مقيدا مكبلا بخصوصية وفرادة كل حقل عن الآخر ، وهذه “تقليعة ” فرض علينا قبولها والتعامل معها؛ لذلك ألفنا منذ أمد إعمال النظر والمقاربة على الكتابة والإبداع النسويين. ومن هذه الزاوية نصوِّغ لأنفسنا مقاربة نصَّين شعريين حديثين، الأول للشاعرة الحداثية المغمورة حكيمة الشاوي التي سخرت من الرسول في القصيدة/الزوبعة >أنت..< والثاني للشاعرة المغربية المرموقة أمينة المريني.

-  د. محمد سعيد صمدي

حكيمة الشاوي والنزوع لنرجسية الأنثى

إن المتأمل في مثل هذا الصنف من الشعر النسائي المغربي يلفت نظره هذا النزوع المفرط والعشق اللافت لنرجسية “الأنثى” من قبل الأنثى، إنه تغني بالذات/الجسد/الكينونة/الرغبة.

وتنخرط الشاعرة المغربية حكيمة الشاوي في هذا النسق الفني/الأيديولوجي وتتجاوز ضوابط العشق إلى اختلاق عدو مُتوهم /الرجل/الذكر، وتوظف تجربتها في إبداع “قصيدة المبالغة والافتعال” بلغة جابر عصفور، أو قصيدة أنتِ/”اللعن” تغليبا وترجيحا للمفردة الأكثر حضورا وترديدا في القصيدة/العار. تكررت مفردة “ملعون” بصيغة المذكر ثمان مرات إذا أسقطنا شطر اللَّعْنِ التاسع الذي أُقحم في القصيدة بِزعم صاحبتها.

إن الشاعرة في قصيدتها أو لنقل في بيانها الشعري تلعن الأخ والشقيق/الرجل الذي يردد مأثورات متداولة في الذاكرة الشعبية المغربية. واللعن أو اللعنة مصطلح رائج في الخطاب الديني ويحمل دلالات دينية غَيْبيَّة محضة رددتها معاجم اللغة وهي : >الطرد والإبعاد من الله<(1)؛ لذا يُستغرب هذا التوظيف ذو النفس الديني في خطاب حداثي عصراني يستهجن الحَكْيَ الشعبي والتأويل الديني، تقول الشاعرة في بيانها :

>ملعون يا سيدتي من قال عنك :

مِنْ ضلع أعوج خرجت

ملعون يا سيدتي من أسماك

علامة على الرضى بالصمت

ملعون منذ الخليقة من قال عنك :

عورة من صوتك إلى أخمص قدميك

ملعون من وأد الكلام فيك…<

إن إقحام لفظة اللعن بإفراط يشين جمالية النص ويفقد الخطاب عنصر الاستكناه والرمزية ويدعم فيه عناصر “المبالغة والافتعال والصدامية”.

كيف تنظر الشاعرة  حكيمة على مستوى الرؤية والتصور لجنس وكينونة “الأنثى” المخاطبة في القصيدة بلغة نزار المعروفة بـ >يا سيدتي<؟؟

إن المرأة كموضوع تختصر في قيم الجمال والبهاء الجسدي، ويغيب في هذا النص ذلك الجانب الإنساني العاطفي الذي أسكنه الخالق تعالى قَلْبَ كل أنثى، إن الشاعرة وهي توظف التجربة الشعرية لا تملك المنظار” الطبيعي” المألوف الذي تتماهى في قالبه مشاهد الألفة بين الجسد والروح بين المظهر والجوهر، فهي لا ترى فيها إلا جمال الذات/الجسد، تقول:

>مشرقةٌ أنت يا سيدتي كالشمس

والشمس تشرق كل يوم من عينيك

شامخة أنت كَسَعْف النخيل

والقمر تحت قدميك يزحف

والنجوم تتناسل بين يديك…

باهية أنت كقوس قزح

وقوس قزح يستمد ألوانه من وجنتيك…<

إن النص الذي نضعه بين أيدينا تنتمي صاحبته إلى خطاب الحداثة وحقل العصرنة، وهو يفتقد إلى أهم عنصر يطبع الخطاب الحداثي وهو الإغراق في الرمزية والانزياحية وهو الأمر الذي يسمح بتفجير القراءات وتعدد التأويلات. ومع ذلك فإن الناقد المدقق يسمح لنفسه باستغلال الإمكانيات الجديدة التي طرحتها النظرية، التأويلية المعاصرة Herménentique  والتي لخصها الناقد “هانز روبير”   إذ يقول : >إن التلقي بمفهومه الجمالي، يعني عملية ذات وجهين، إذ تشمل في آن واحد الأثر الذي ينتجه العمل الفني وطريقة تلقيه من قبل القارئ/المتلقي، ويمكن للقارئ أن يستجيب للعمل بعدة أشكال  مختلفة : فقد يستهلكه أو ينقده، وقد يعجب به أو يرفضه، وقد يتمتع بشكله ويؤول مضمونه ويتبنى مُكرسا أو يحاول تقديم جديد، وقد يمكنه أخيرا أن يستجيب للعمل بأن ينتج بنفسه عملا جديدا<(2).

من هذا المنطلق النقدي والمنهجي لا يُسمح بالاحتجاج على القارئ وقَمْعِ أية قراءة يتبناها؛ إن للقارئ الحق والمشروعية في اختيار التأويل المناسب والانزياح بالمعاني إلى أبعد حدود ممكنة لا يمكن للشاعرة حكيمة أن تُحجِّر على القارئ فهومات معينة لقصيدتها، فالنص كتاب مفتوح خاصة وأن القصيدة زاخرة بالتناص الديني الصريح والواضح؛ ذلك أن الشاعرة كانت على وعي دقيق وقصد واضح وهي توظف أسلوب اللعن والشتم والقدح الساقط؛ إنها تستحضر مقولات متداولة من المأثور الإسلامي وتتقصد ذمَّ وشَتْمَ قائليها ومعتقديها مثل تشبيه المرأة بالضلع الأعوج، وصمتها حياء علامة على الرضى، ولباسها وصوتها…

لقد تفاجأت الشاعرة بقراءة المتلقي المغربي لقصيدتها رغم أنه لم يكن من داعٍ لتوظيف سحر التأويل، ولم ينفسح رحب صدرها لاختيار المتلقي في توجيه القراءة كما انفسح صدر عبد الرحمان منيف لما أول أحد قراء روايته الملحمية “مدن الملح” دلالة ورمزية شخصية السائق “آكوب” فردَّ على هذا التأويل بقوله >يسرني أنك وجدت في شخصية “آكوب” كل هذا، ولكني أعترف بأني لم أفكر بشيء منه حين كتبتُ الرواية<(3) هكذا يتضح أن إقصاء القراءة الرائجة لم يكن منتظرا من قِبل الشاعرة حكيمة ومن يدور في فلك الحداثة والتغريب، وهذا الشاعر المغربي محمد الأشعري الوزير الحالي يقول >… الأمر لا يتعلق بمقال أو بالتعبير عن رأي، وإنما بقصيدة لها تأويلها ولها سياق قراءتها<(4)؛ ونزيد هنا : لها تأولا تها ولها سياقات قراءاتها كما يرى >هانزروبر<.

ومن زاوية أخرى أبت ست جمعيات نسوية إلا أن تُقحم أنفها في موضوع ذي طبيعة أدبية يحتمل كل صنوف التأويل، لكن البيان السياسي الذي يصاغ في الصالون الحزبي لا يتحدث إلا بلغة السياسة، جاء فيه >… يتم الآن تقويل حكيمة الشاوي مالم تقله، وتحريف ما قالت… <(5). إن ردود الفعل هاته وغيرها تقفز حتى على قيم الحداثة وتتوخى تحجير الناس على فهم واحد ووحيد للنص الشعري.

ولقد كتب مؤخرا المصطفى فيصل مقالة يتناول الموضوع ذاته أبرز فيها ضرورة تغييب الحس الديني والبُعد العقدي في أية كتابة نقدية : >فعليهم أن يتكلموا بلغة النقد الأدبي لا بلغة النقد الديني، لكون لغة النقد الأدبي هي المؤهلة للنظر في إبداع يعتمد بالدرجة الأولى على خيال وانفعال…<(6)

إن المشكلة عند هذه الجماعة تكمن في عدم الإحاطة والاطلاع على الصورة الكاملة لتجليات المشهد الثقافي المغربي؛ إذ لو تحقق هذا المطلب لأُحْجِم عن مثل هذه الأقاويل والاتهامات. لقد مثل القريض الشعري الذي جادت به قريحة الشاعرة المغربية أمينة المريني< أرقى سياق تعبيري جمالي حَفَّزَتْه وأفرزته قصيدة شعرية ناشزة. وغالب الظن أن المصطفى فيصل لم يطلع على “قصيدة التضاد التي أبدعتها الشاعرة في الرد والتصدي للتي > أهدت نساء العالم قصيدتها الرعناء >أنتِ<(7)

أمينة المريني والعشق النبوي

أطلت الشاعرة الأمينة على جلال الكلمة وسحرها على قُرَّائها بقصيدتين مختلفتين قالبا متفقتين موضوعا. الأولى قصيدة من الشعر العمودي التقليدي جاءت بها مُعارضَةً ومعاكسةً لقصيدة الشاوي من الشعر الحر؛ وقد تعمدت الشاعرة المريني بلا ريب الرد بالقصيدة العمودية العتيقة على نص غير عمودي متحرر شكلا ومضمونا وفي ذلك إشارة رمزية تفهمُها المخاطبَة المتقصدة بالخطاب/التحدي، وتعمدت الشاعرة المريني إتباع هذا النص بقصيدة في العشق النبوي بمناسبة حلول  الذكرى العطرة لمولده ، وكان النص من شعر التفعيلة أو الشعر الحر لتضيف إشارة رمزية تُدركها المتذوقة للشعر النسوي المغربي والقصيدة/>النبوية< مُصَدَّرة بما يلي :

حينما يتقد الشوق إلى رحاب الحبيب المصطفى لا يجد المتشوق بُدّاً من أن يقول :

>مَن يشرع الأبواب في جُدُر الغياب

من ذا يحيل حقيقة

مَحْلَ السرابْ

وأدق أقرع بابك الشماء

لم أركب لها غير الطيوف

وصبوة الأرواح

تمخَرُ بي إليك متيماً

هذا العبابْ؟

وتختمها بقولها : …

…وهنا أقول (محمد) وقد أشرقت قسماته

بالحب والبشر العميم

وبالكريم من الخلال

مازال وجهه مُورقا في أضلعي

مازال لي قلب يلذ له اللقاء

على الخيال<(8)

إن القصيدة طافحة بالعشق والتفاني في الحب المحمدي، حبُّ المرأة المؤمنة لنبيها ورسولها، إنه حبٌّ ما بعده حب، لقد ضجرت الشاعرة المُحِبة العاشقة للحبيب محمد  من قصيدة زميلتها ورفيقتها في درب القريض الشعري حكيمة الشاوي التي أبرزت فيها صنوف  الجفاء في حق مَنْ وَجَبتْ محبته. إن الشاعرة انفعلت وتأثرت بهذا الخطاب المتجافي الذي لا يحمل رؤية موضوعية لا للمرأة ككينونة مخلوقة ولا للنبي عليه السلام كنبي مرسل. فعلى مستوى موضوع الأنثى التي جعلت منها الشاعرة الشاوي ملكة أسطورية على مملكة الكون وبوأتها مكانة العلياء صورةً وخيالاً، ردت عليها أمينة المريني بقولها :

كذبت ما جئت من شمس ولا مطر

ولا تلظيت من شمس ولا قمر

ولا اعتليتُ على نخل ولا قزح

ولا تناسل مني واقد الشرر

إنما صاغني الرحمن من خزف

وقال من لطفه : >كوني من البشر…

وتتحدى صديقتها التي ادعت امتلاك سلط القوة والمكانة والجمال والخلق والإبداع أن تقاوم قهر الكون حياة وموتا وفلكا وخلودا؛ تقول لها :

فإن تكوني بهذا الطول يا عجبا

مري الكواكب لا تبزغ ولا تسر

وهات بالشمس من أقصى مغاربها

ولوني  قزحا من كفك القذر

وحاصري الموت لا يأتيك مؤتمرا

ولا تليني لأكفان ولا حفر

ولا تكوني لدود الأرض مرتعه

ووطني للصبا في عظمك النخر

لا شك أنها صور تستخلص كل ملامح الجِذْوة الشعرية والتحدي الإبداعي والتصوير التخييلي.

وجليٌّ أن أمينة المريني وهي تمتلك كل هذه القدرات تنطلق من تصور إسلامي سوي يجعل من المرأة والرجل إنسانا من طبيعة طينية محضة >ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين<(9).

لقد تلقت الشاعرة المريني قصيدة “اللعن بانفعال وتأثر عميقين، وهذا شرط أساس في توقد واشتعال نبض التجربة الشعرية عند المبدع، لقد اعتبرتها بيانا جارحا ونشازا لم يُوَقر ضوابط الحرية التعبيرية والتفكير الجمعي  والمأثور الشعبي. لقد تعمدت حكيمة الشاوي تضمين التناص الحديثي في سياق قدحي، وقد اعتبر النقاد المغاربة هذا السلوك الإبداعي جرأة مذمومة غير مسبوقة لم يُسجَّلها حضور في الخطاب الشعري النسوي بمختلف أطيافه الفكرية.

إن سياق الذم والقدح للإنسان المغربي الذي تحفظ ذاكرتُه الشعبية مؤثورات ذات نفحة دينية مَوْثُوقة وقطْعيَّة تمت بصلة واضحة وحبل موصول بالكلام النبوي ، أفقد هذا الذم والقدح صواب الشاعرة المريني وهي التي تحفظ قول نبيها  >والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده<(10) فدعت على من سولت له نفسه التعريض والإيماء بما صح عن هذا الحبيب المحبوب قائلة :

شَلَّ الإله يدا بالإفك قاذفة

في حق >طه< رسول لله ذيالغرر

وفض فك عداة النور قاطبة

بجاه >طه< ونور الآي والسُّور

سيظل الوفاء للعشق النبوي حاضرا منذ أن سطر القاضي عياض بيمينه >الشفاء في التعريف بحقوق المصطفى<  إلى يوم الناس هذا، وسيحافظ الشعر المغربي على طابعه الديني الذي يُمثل فيه شعر “النبويات” عمق المحبة والوفاء الأبدي للنور المحمدي؛ وهو ما يمنحه سمة الخلود >وما التقى الفن بالدين في أثر إلا خلد ذلك الأثر، وصار آية من آية الفن، تزهى به الأيام، ويفخر به أهلوه على سائر الأمم<(11)

الهوامش  :

1) لسان العرب مادة (العن)

2) Esthétique de la réception et communication littéraire P:1117

3) نقلا عن الدكتور فؤاد المرعي مقال ” في العلاقة بين المبدع والنص والمتلقي” مجلة عالم الفكر مج 23 ع1،2 ص345.

4) خلال جوابه على سؤال شفوي بمجلس النواب.

5) جريدة “الاتحاد الاشتراكي” ع 6484(12/5/2001)

6)  بيان اليوم ع 3380 (02/06/2001)

7) وقد عنونتها صاحبتها بـ >لقد كذبت : ما تناسلت النجوم بين يدي…< وأضافت : افتخرت بنزار وتطاولت على سيدك رسول الله … تنظر القصيدة في جريدة “التجديد” ع 162 (14/04/2001)

8) القصيدة منشورة في جريدة “المحجة” ع 152(09/06/2001)   //   9) سورة المؤمنون : آية 12

10) صحيح البخاري كتاب الإيمان.  //   11) الدكتور عبد السلام شقور في كتابه >الشعر المغربي< ص 57.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>