من لكِ يا قرطبة بعد رحيل الدكتور الداعية مولاي علي المنتصر الكتاني رحمه الله


مشروعية الرثاء”

>إذا شئت أن ترثي فقيداً من الورى

وتندبه بعد النبي المكرم

فلا تبكين إلا على فَقْد عالم

يُبادر بالتفهيم للمتعلِّم

وفقْد شجاع صادق في جهاده

وقد كُسرت راياتُه في التقدم<(1)

عُرفت سنة 1412هـ/2000م بسَنةِ رحيل العلماء إلى دار البقاء، وها نحن في هذه السنة الجديدة من الألفية الثالثة تنطفئ في “ظلماتنا” قناديل وضاءة، وتهوي منارات لامعة تخطفها يد المنون استجابة لنداء القدر.

كيف سيستقبل القُرطبيون نبأَ فاجعةِ وفاةِ داعية مسلم مغربي مات بين ظهرانيهم؟ كيف سيتلقّى مسلمو قرطبة بخاصة والأندلس وإسبانيا بعامة ومسلمو العالم بوجه أعم ومثقفو قرطبة وساستها وبسطاء الناس فيها خبر رحيل الدكتور مولاي علي المنتصرالكتاني؟ كيف ستقضي جامعة ابن رشد القرطبية بقية أيامها بعد رحيل مؤسسها وعميدها؟ ما هو مقْدار الحزن والأسى الذي سيكسو واجهة هذه الجامعة : جدرانها، قاعاتها، مسجدها، مكتبه الإداري؟ من سيشُدُّ أزْر طُلابِك وجُلَسَائك والعاملين في حقل التدريس بجانبك؟!!!

لاشك أن هذه المؤسسة الثقافية الشامخة والفتية، بكل أنفة وكبرياء وسط حيطان الصلبان والبِيَع والكنائس، ستلتحِفُ السّواد وستذرفُ دموع الكمد والوداع، وسيُغطي الصمتُ الرهيبُ شوارع هذه المدينة الأندلسية ودروبها العربية الوفية لعروبتها، حزناً وألماً على فقْد رجلٍ عربي مسلمٍّ كريم يَحمِل بين جَنْبَيه بريق الحضارة الأندلسية الغابرة، أحبَّته تُربةُ الأندلس المسلمة قبل أن يُحبّه الأندلسيون والإسبان لما رأَوا فيه من نموذج للمثقف المسلم الرفيع والعالم العربي المتنوّر، عشِقتْه التربة القرطبية فجذبته إليها ليَسْقيها ماء الحياة العربية المندرسة علّها تُنْبِتُ يوماً زرعاً يُعجِبُ الزُّرّاع، وتستعيد الأندلس فِردوسها المفقود.

لقد زرع المرحوم الفسيلة، فسيلة الحب والوفاء للمجد الإسلامي الذابل، واختار قرطبة روضةً وحديقةً من حدائق الأندلس لبَعْث وإحياء ماذَبُل من زهور الإسلام المسكية العطرة؛ فهل من ساقٍ ومُروٍ لهذا الإنبات الروحاني الفَتيِّ ذي النسمات المحمدية الزكيّة؟!!

صبيحة يوم الثلاثاء 15 محرم 1422هـ، الموافق 10 أبريل 2001م، ودون توديع أو مرض يُخشى معه الهلاك، راح عن دُنيانا الأستاذ المجاهد علي المنتصر الكتاني عن سنٍّ تقارب الستين؛ راح وهو لا يزال يمتلك عنفوان الشباب وفتوة الحركة وقوة العزيمة التي لا يُثنيها ولا يفتُّ من عضُدها كِبَرُ السّن وتعب الطريق.

والفقيد العزيز هو مولاي علي ابن العالم المعروف المنتصر الكتاني الذي انتُفِع بعلمه مغرباً ومشرقاً (بالشام على الخصوص) والفقيد من بيت علمي شهير بالمغرب يُشهد له بالعلم والدين والشرف والجهاد. خلَّف أبناء هذه السلالة الكتانية ثروة علمية فياضة، إلا أن المرحوم سيُغني هذه الثروة بتخصصه العِلميّ الدقيق في هندسة الطاقة إلى جانب تاريخ وتراث الأقلية المسلمة في العالم.

وُلد مولاي علي يوم 27 شتنمبر 1941م، بفاس، بلدة القرويين بالمغرب الأقصى، بدأ حياته التعليمية بالمغرب لينتقل في عزّ شبابه إلى الشام/دمشق ليحصل بها على الباكلوريوس سنة 1959 في شعبة الرياضيات، بعدها سيرحل إلى أوربا وبالضبط إلى سويسرا (لوزان) ليحصل من المعهد الفدرالي للتكنولوجيا على درجة الماجستير في الهندسة الكهربائية سنة 1963م؛ ثم بعد ذلك ستكون الوِجهة إلى أمريكا (بيتسبورغ) حيث سيحضِّر أطروحة الدكتوراه بجامعة “كرنجيه” التي سيحصل عليها بجدّة وقوة ذكائه سنة 1966م، وهكذا يلاحظ أن هذا الشاب المغربي المبارك سيصبح دكتوراً في أدقّ التخصصات من العلوم البحثة وهو لا يتجاوز 25 سنة من العمر.

شغل منذ سنة 1964م عدةمناصب تليق بمؤهلاته وكفاءاته :

1964 : أستاذ مؤطر بمدرسة المهندسين بالرباط.

1966- 1968 : أستاذ بجامعة “كرنجيه” بپيتسبورغ.

1968- 1969 : أستاذ مشارك بشعبة الهندسة الإلكترونية بجامعة الرياض/السعودية.

1969- 1973 : أستاذ مشارك بجامعة الملك فهد للبيترول والمعادن بالظهران/السعودية.

1973- 1982 : أستاذ قار بجامعة فهد بالظهران المذكورة.

1975- 1976 : أستاذ زائر بمعهد ماساشويتس Massachusettes للتكنولوجيا بكامبردج.

1970- 1978 : أستاذ مساهم في الدروس ا لصيفية المجانية بإيطاليا.

1981 : اختير المرحوم من طرف منظمة المؤتمر الإسلامي لمهمة إنشاء “المنظمة الإسلامية لعلوم التكنولوجيا والتنمية” (I.F.S.T.A.D) بجدة وعُين أول مدير لها.

1986 : عُين سكرتيراً عاماً للأكاديمية الإسلامية للعلوم (IAS).

وأخيراً أسّس وأدار جامعة ابن رشد الدولية الإسلامية بقرطبة.

وإلى جانب كل هذا عمل عضواً ومساهماً في عدة منظمات ومجموعات علمية (السويد -كندا -الأردن).

يتحدث بكل إتقان إلى جانب لغة القرآن، الانجليزية والاسبانية والفرنسية وسيضيف المرحوم إلى هذه الأعباء عبْئاً أكثر ثقلا حينما سيوظف كل طاقاته وإمكانياته في خدمة الأقليات المسلمة، هذه المجموعات المنسية والمضطهدة في الأصقاع النائية والقريبة على حدٍّ سواء.

مع كل هذه التحركات والمشاغل سيؤلف وسيُساعد على تأليف اثني عشر كتاباً بالإنجليزية والعربية. وسيساهم بأزيد من 150 بحثاً “Articles” في قضايا متنوعة، وخاصة في قضايا الطاقة.

من أشهر مؤلفات فقيدنا

1- “البلازما” وقد طبع عدة مرات.

2- “آلأقلية المسلمة في العالم اليوم “Muslim Minorities in the worldToday” صدر عن دار نشر “مانسيل” بلندن سنة 1986.

3- “الأقليات المسلمة في أوربا وأمريكا” في جزئين.

4-  “انبعاث الإسلام في الأندلس”(2).

ومن آخر ما وقفت عليه للأستاذ المرحوم بحث مطول نشرته له مجلة “التاريخ العربي” التي يديرها رئيس جمعية المؤرخين المغاربة الدكتور عبد الكريم كُريم، والبحث بعنوان : “ثورة غرناطة الكبرى -1568- 1570م-” تعرض فيه للوضعية المتأزمة والتقلبات السريعة التي عرفتها “مملكة غرناطة” قلعة الإسلام والعروبة بديار الأندلس، والمخاطر التي عاني منها المورسكيون في صراعهم المرير مع طاغية إسبانيا الأصولي الكاثوليكي فرنادو وأولاده وأحفاده وخلفهم من بعدهم خلال ق10هـ(ق 15 و16م)؛ وهو في هذا البحث ينقل الأخبار ويُحلِّل بدقة وذكاء فكري ويستنتج الخلاصات والعبر، وما أضفى على هذا العمل قيمته العلمية اعتماده على كتابات المسيحيين الإسبان الناذرة والدراسات العربية المهتمة بتاريخ الأندلس؛ ويمكن للقارئ المهتم أن يطّلِع على هذا الموضوع من خلال موقع “مجلة التاريخ العربي” على الأنترنيت(4).

ولعل آخر ما صدر عن مولاي علي الكتاني مقالا صحفيا نُشِر بجريدة أسبوعية مغربية(5)، أياماً قليلة قبل وفاته (2001/04/12م)؛ تناول فيه قضية الألبان الثائرين المطالبين بحقوقهم واعتبارهم كأصول مكوّنة للبنية السكانية لدولة مقدونيا بمنطقة البلقان، ومما قاله رحمه الله عن إشكالية الأقلية المسلمة بهذه المنطقة : “ثمة إجماع أوربي غربي على عدم منْح مسلمي المنطقة حقوقهم التاريخية الكاملة، وإلا سوف تقوم دولة إسلامية تجمع شتات ما يقارب العشرة ملايين مسلم في المنطقة!… نحن نشهد اليوم من خلال صحوة الأقليات المسلمة في منطقة البلقان على رد الاعتبار ضد الإ جرام العالمي الذي ارتكِب في الحرب العالمية الأولى، حيث تم تقسيم الأراضي الألبانية للقضاء على الهوية الألبانية، هناك اتفاق غربي شمل الأطراف الأوربية أولا، روسيا ثانيا والولايات المتحدة الأمريكية على نقطتين جوهريتين في نزاعات منطقة البلقان :

1) عدم الترخيص لاستقلال تام لكوسفا، حتى لا يتم التمهيد للوحدة مع ألبانيا.

2) عدم منح الحقوق التاريخية لألبان مقدونيا تفادياً طبعاً للسقوط في نفس المطب، أي الوحدة الألبانية الجامعة للشتات الإسلامي في المنطقة.

هناك عداوة للإسلام، هناك حرب ضد الإسلام، وهذه أمور لا يتم الإفصاح عنها.. بالنسبة للعالم الإسلامي هناك غياب تام عن مساندة مسلمي البلقان، ويعود هذا الغياب أولا إلى جهل المسلمين أنفسهم بتاريخ المنطقة..” راح رحمه الله وهو يودّعنا بكلمات يحمُّلنا برّناتها وإيقاعها الحزين مسؤليتنا التاريخية والدينية فقال مودِّعاً الدنيا : >وأؤكد في الأخير على مسؤولية العالم الإسلامي حكومات و شعوباً في مساندة الهوية الإسلامية المتجذرة لمسلمي البلقان، والمسألة لا تحتمل هذا التماطل والتجاهل<.

اللهم إنّا نشهد أنك قد أديت أمانة هذا الواجب فحرّكْت القضية في النفوس، وستشهد لك الأوراق التي حبّرت عليها بيمينك، والمنصّات التي خطَبْتَ عليها بأعلى صوتك، والمسافات التي قطعتها مُضحيا بوقتك ومالك وراحتك، لا تطلب تعويضاً أو مكافأة كما يهْمِسُ ويخْتلِس أهْلُ الفِكر الحداثي ودعاة المعاصرة المزعومة -وقد خِبِرْناهم كذلك-.

لقد وعيت دور المثقف المسلم المُنوّر فقمت به وأدركت صنوف الجهاد فاخترت ذِرْوة سنامه، جهاد الفكر والعلم القائم على الانفتاح على لغات الآخر قصْدَ فَهْم تاريخه وذهنيته فأتْقنْت لغات العالم المعتمدة التي مكّنتك من اختراق الآخر فأبهرته بجمالية الإسلام ونقاءِ عقيدته.

لقد كُنت من السبّاقين إلى استغلال تقنيات العصر لخدمة دينك فأنجزت موقعاً خاصاً على الإنترنيت تُطْلِع فيه زُوّارَك على : من نحن؟ الخط العربي، الفقه، الحديث، الموريسكيون، الصهيونية،..(6)

من سيُؤنِس مقصورات القطار الرابط بين الرباط، وطنجة في طريقك إلى قرطبة في كل شهر مرة أو مرتين بأحاديثك الشجية ونصائحك الغالية ونوادرك الطريفة لكل من يجلس أو يحظى بالجلوس بجانبك فيَلْمَسُ منذ الوهلة الأولى شيم الشهامة والصلاح في زمنٍ هَيْمنت فيه مظاهر الرجولة المزيفة؟!! منْ سيَمْتلك القدرة على إدارة الجامعة الرُّشدية المكلومة والتضحية من أ جل استمرار دورها العلمي النبيل؟

فلتَهْنَأ قرير العين بهذه الحصيلة الزاخرة من الأعمال التي كابَدْت من أجل تجميعها وترتيبها في حقيبة السفر إلى تلك “الدار”، فلْتَهْنأ بذلك الدرس التاريخي الذي قدّمته تعريفاً بالإسلام أمام ملِكة إسبانيا زوجة الملك خوان كارلوس، فلْتَهْنأ بمَن أصبح مُسلماً يولِّى وجهه شَطر المسجد الحرام بسببِك.

وأنْتَ تموت -عليك الرحمة- بقرطبة خارج بلدك بعيداً عن أهلك، فلتَهْنأ بهذه الآية الكريمة {ومن يخْرج من بيْته مُهاجراً إلى الله ورسوله ثم يُدركه الموت فقَد وقع أجره على الله، وكان الله غفُوراً رحيماَ} صدق الله العظيم.

إنَّك إن شاء الله إلى خير، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

——-

1) من شعر الشيخ المغربي رضوان الجنوي.

2) طبعه مجمع البحوث الإسلامية بالجامعة الإسلامية، باكستان، ولمن أراد الحصول عليه هذا هو العنوان : الجامعة الإسلامية -ص ب : 1035 إسلام أباد -باكستان، وقد أصدرت مجلة الأمة كتاباً بعنوان : “الصحوة الإسلامية بالأندلس” للمؤلف.

3) مجلة التاريخ العربي ع 16 ص 295 إلى 325 خريف 1421هـ 2000م.

4)  رمز   الموقع : www.attarikh-alarabi.arg.ma

5) جريدة العصر ع 152 (2001/01/06).

6) هذا رمز الموقع الذي خلّفه المرحوم على الأنترنيت  لمن  أراد  زيارته : http//usvarios.tripod.es/cima-org

د. محمد سعيد صمدي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>