مع كتاب الله عز وجل : تفسير سورة التحريم {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين(10) وضرب الله مثلاً للذِين ءامنوا امرأتَ فرعون إذ قالت ربّ ابن لي عندكَ بيتاً في الجنّة ونجّني من فرعون وعمله ونجنّي من القَوم الظالمين(11) ومريم ابنَت عمران التي أحصنتْ فرجها فنفَخنا فيه من روحنا وصدَّقت بكلماتِ ربّها وكتابه وكانت من القانتين(12)} الإيمان والكفر في القرآن -نماذج نسائية-


نحن اليوم مع الإيمان والكفر اللذين مثل لهما الله سبحانه وتعالى بامرأتين : امرأة نوح وامرأة لوط : {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين} :

-1  المرأة في القرآن الكريم غير الزوجة :

هاتان المرأتان توفر لهما من أسباب الهداية الشيء الكثير، لأنهما لم تكونا تسمعان بالرسالة وإنما كانتا في بيت النبوة وفي بيت الرسالة،فهذه كانت في بيت نوح والأخرى كانت في بيت لوط، وهما تريان الأشياء الخارقة تقع، وتريان الوحي يتنزل في بيتهما، وتريان في سلوك زوجيهما ما يدفعهما إلى أن تكونا مؤمنتين، لكنهما مع ذلك اختارتا الطريق الآخر وهو الكفر والضلال. فهذا نموذج للمرأة الكافرة التي لم ينفعها ولم ينفع فيها أن زوجها نبي حينما عبر الله تعالى عن ذلك في قوله : {امرأة نوح وامرأة لوط} ويؤكد بعض المفسرين من المعاصرين كلمة “امرأة” تستعمل في كتاب الله بمعنىً وتستعمل كذلك كلمة الزوجة بمعنىَ آخر، ففي هذه الحالة لم يستعمل الله تعالى كلمة الزوجة ولكن استعمل كلمة المرأة، والظاهر أن كتاب الله تعالى يستعمل كلمة المرأة أي امرأة الرجل ولا يقول زوجة الرجل، إذا لم يكن بينهما وفاق، إذا كانا على خلاف، إما أن يكون هو مؤمنا وهي كافرة أو يكون الرجل كافرا وهي مؤمنة. فهي حينئذ امرأته للإشارة لما بينهما من التباين والتفاوت والفرق، وكذلك يستعمل الله تعالى كلمة المرأة غالبا حينما يكون الزواج غير تام بالإنجاب، فيستعمل الله تعالى في كتابه امرأة : {وامرأته قائمة فضحكت} ثم قال تعالى : {فأصلحنا له زوجه} أي حينما صارت تنجب سماها الله تعالى زوجا، وهذا يشير إلى أن كلمة الزواج في حقيقتها ملحظ مهم يشير إلى أن كلمة الزواج كلمة سامية عالية راقية في المفهوم الإسلامي. فقد يمكن أن تكون للرجل امرأة ولا تكون له زوجة، بمعنى أن التفاهم والاتفاق على الخير لا يتم : -الرجل يشرق والمرأة تغرب- فهو لقاء جسدي، لقاء جنسي، لقاء منفعي، لقاء مصلحي وقلما يأتي من هذا اللقاء أكثر من هذا الأمر الذي ذكرت لكم. أما اللقاء النافع فهو الذي يقع فيه التزاوج والتجاوب. والتزاوج هنا : يشير إلى التطابق والتماثل، فهذا النعل زوج للآخر إذا كان شبيها له في نفس طوله وعرضه، هذا الزوج للشيء أي يزاوجه : هو وإياه شيء واحد وكل الأشياء التي نسميها أزواجا تكون متماثلة متشابهة، لا يكون أحدهما، أكبر من الآخر ولا أصغر ولا أغلظ ولا أرق. أي كل الأشياء التي نقول فيها زوج فهي على مقياس واحد.

فهذه المرأة على غير دين الرجل وعقيدته في الحياة، فإنها تكون له امرأة ولا تكون له زوجة، ولذلك استعمل كتاب الله تعالى في هذه الأحوال كلها، امرأة نوح، امرأة لوط، امرأة فرعون أيضا. وامرأة فرعون مؤمنة وزوجها كافر فلم يطلق عليهما أزواجاً لأنهما غير متماثلين. إلا أن امرأة فرعون هذه كانت مؤمنة ونجد أن الظرفية التي آمنت فيها ظرفية جد شاقة. إذ كان فرعون يقتل الأبناء ويستحيي النساء، فهي رغم هذا الجو المليء بالتقتيل وإراقة الدماء استطاعت أن تجد لنفسها مخرجا لهذه الورطة وتفك الحصار الذي ضربه فرعون على بني إسرائيل تارة بالتهديد وتارة بتظاهره بالإصلاح حيث قال : {إني أخاف أن يبدل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد} فهي معذلك آمنت بموسى وخالفت فرعون وملأه، فنجد أن الناس لا يستطيعون أن يخرجوا عن تقاليد ألفوها وعادات شبُّوا عليها  وبإمكانهم ذلك، بينما امرأة فرعون خرجت عن كل ذلك واتبعت موسى. فالإنسان الذي يُكَوِّن شخصيته وسط هذا الخضم ليس إنسانا عاديا، فقد رفضت هذا كله وتوجهت إلى الله تعالى بالدعاء وقالت : {رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} هذه هي امرأة فرعون، فهي آمنت لأنها علمت بأن هذا حق وصواب وأن طلبها للبيت في الجنة ليس هو قصد البيت، لأنها كانت تتمتع بقصر مشيد وحشم وخدم ولباس ومركب وكل أنواع الزينة التي كانت تشعر بقدرها، كما أن الملأ الذين من حولها قالوا : إنها إذا ماتت سيشيدون لها هرما يناسب قدرها باعتبارها “امرأة الفرعون” ولكنها قالت : {رب ابن لي عندك بيتا في الجنة…} فهي تريد أن يشملها الله بعطفه وعنايته ورعايته، ولذلك اختارت هذا. فهذا الهرم الذي ُيَمّنونها بسكناه فإنما هو للجسد بعد موته، ولكنها اختارت ما عند الله لأنه خير وأبقى {ابن لي عندك بيتا في الجنة} هي تريد النجاة والخلاص والفكاك من فرعون، لأنها تعلم أنها سوى امرأة له لكونها على دين وهو على دين آخر. هي تُوَحِّدُ الله وهو يرى نفسه إلاها، إذن فيه تُعَذّب جسديا، فأفضل لها أن تعيش في كوخ ناء في غابة تمارس عقيدتها ودينها بلا مضايقة بدلا من أن تكون بجانب هذا القصر الذي تشعر بأن هواها ليس معه. فلذلك تطلب النجاة لأنه لا فائدة للاستمرار على هذا الخلاف، هي تريد نوعا من أنواع الفراق من فرعون {نجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} وهي علمت ما يصدر من فرعون، وما ترى من تصرفاته كله لا يصلح، وتطلب النجاة من القوم الكافرين الظالمين من جنوده وأتباعه ومنفذي خطته وتقول إنها زهدت في هذا كله ولهذا سماها الرسول  بالمرأة الكاملة فقال : >كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع : نذكر منهم : آسية : امرأة فرعون ومريم بنت عمران< هذه المرأة إذن مثال للموقف الشامخ المرتفع.

-2 المرأة الكرّمة في القرآن الكريم هي المومنة التقية :

وكما قلت إن القرآن الكريم يحتفي بالمرأة ويرفع من قيمتها، وهذا إذا ما قامت بأعمال عظيمة، هذا هو المجال الذي يمكن للمرأة فيه أن تتفوق وأن ترتفع، وهو مجال تحقيق الذات وليس مجال الزحف على البطن. ونلاحظ أن كتاب الله تعالى يشير إلى المرأة الرفيعة، لكن المرأة التي تختار أن تزحف على الأرض، تختار أن تجاري شهواتها، تختار أن تستجيب لكل دعوة مائعة في الدنيا، إنها ليست من هذا القبيل الذي يكرم في منطق القرآن الكريم. والمرأة التقية المؤمنة لاشك أنهامكرمة وأنها تستحق كل تقدير وقد كرمها الله تعالى عندما سجل قصتها. وضرب بها المثل في الصلاح والتقوى والاستعلاء على عرض الحياة الدنيا في أزهى صُورِه. المثل الثاني، والأخير في هذه السورةفهو مثل مريم بنت عمران، إن هذه المرأة ه : ابنة عمران، وهذا الرجل عمران كان أحد صلحاء بني إسرائيل وأحد مقدميه في مجال العبادة، وقد كانت له زوجة : هذه الزوجة تسميها بعض الكتب حنة بنت فاقودة، وقد كانت على طريقة وعلى نهج وعلى شاكلة وعلى دين زوجها، تزوجها عمران وقَبْلَ أن يولد له منها توفي وهي حامل، فبقي هذا الجنين منه في بطن أمه. وحينما كان في بطنها وهي تتعبد  وتتقرب من الله تعالى وتؤدي فرائضها، نذرت على نفسها نذرا، وآلت على نفسهاأن تُخصِّص هذا الذي في بطنها لرعاية المعبد : بيت المقدس، فنذرته وجعلته محررا.

كما ذكر القرآن في سورة آل عمران : {إذْ قَالتِ امْرَأَةُ عمران ربّ إني نذَرت لك ما في بطْنِي مُحرَّراً فتَقَبَّل منّى إنّك أنتَ السَّمِيع العَلِيمُ، فلمّا وضَعتْها قالت ربّ إني وضعْتُها أُنْثَى والله أعلمُ بما وضعَتْوليْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وإنّى سمّيْتُها مرْيم وإنِّي أُعِيذُها بِك وذُرِّيَتَها منَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم، فتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسن وأنبتها نباتاً حسنا…}.

ومعاهدةُ أمّ مريم الله عز وجل على أن تجعل ما في بطنها محرّراً لله يدل على أن مريم نبتَتْ في بيت عريق في الصلاح والتدين والتجرد لله تعالى لإعلاء دينه، وخدمة بيوت عبادته، ولذلك وصفها الله تعالى بأنها كانت من القانتين، أي كانت من نَسْل وأعقاب القانتين، أي من عِداد المُواظِبين على الطاعة رجالا ونساءً، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام، ومدْحُها بذلك للتدليل على أن الفَرعَ يتْبَعُ أصْلهُ في الغالب {والبَلَدُ الطَّيِّبُ يخرُجُ نباتُه بإذْنِ ربِّه والذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاّ نَكِداً كذلك نصرِّفُ الآياتِ لقَوْمٍ يشْكُرون}(الأعراف : 57) وهي إشارة واضحة للسنة الربانية في تعاقب الصلاح وتوارثه أباً عن جد، ورسالةٌ واضحة إلى دوْر الأسرة في تكوين الأجيال الصالحة التي تستحق أن تكون أساساً وقواعد للمجتمع الصالح، والأمة الصالحة.

روى أحمد في مسنده : سيدة نساء أهل الجنة : مريم، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية، ثم عائشة. وفي الصحيح كما سبق >كَمُل من الرجال كثيرٌ، ولم يكْمُل من النساء إلا أرْبعٌ : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ، وفضل عائشة على النساء كفضْل الثريد على سائِر الطّعَام<.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>