خريف عاصف في تركيا


ابتداء من هذا الأسبوع تتجمع في الأفق التركي سحابات قاتمة عدة منذرة بخريف عاصف يصعب التنبؤ بمداه، وإن كان من المهم للغاية ملاحظته ولو من بعيد. صحيح أن المسرح السياسي التركي لم يخل من التوتر يوما ما، بسبب الصراع المستمر بين القوى السياسية هناك -الاسلامية والعلمانية بالدرجة الأولى- إلا أنني أزعم أن ذلك الصراع المحتدم سوف يبلغ إحدى ذراه العالية خلال الأسابيع القليلة القادمة.

أما لماذا حددت بداية المنعطف الجديد بالأسبوع الحالي، فهناك عدة أسباب، أولها أنه يوافق بدء السنة القضائية. إذ خلال هذاالأسبوع تعود المحاكم إلى العمل بعد توقف جرى عليه العرف استمر طيلة أشهر الصيف. وهو ما يعني ضمنا أن المحكمة الدستورية العليا سوف تستأنف نظر القضايا المحالة إليها، وفي المقدمة منها قضية حل حزب “آلفضيلة” ذي التوجه الإسلامي. وكان المدعي العام التركي قد طالب بحلالحزب بحجة أنه يعد امتدادا لحزب الرفاه الذي قضت المحكمة في وقت سابق بحله وحظره. وهو في مطالبته تلك قدم مجموعة من الأدلة الدامغة التي تؤيد دعواه، الأمر الذي أدرك فيه قادة الحزب وأركانه أن الحل قادم لا ريب. وحين كنت في استانبول خلال الأسبوع الماضي كان هذا الموضوع محور حديث الدوائر السياسية، الاسلامية منها بوجه خاص.

ولم يكن الحل هو محور ذلك الحديث، وانما كان الجدل دائرا حول النتائج المترتبة عليه وفي مقدمة تلك النتائج مصير 150 عضوا في البرلمان، الا إذا سارع أولئك النواب بالاستقالة من الحزب قبل أن تعلن المحكمة العليا قرارها بالحل. وهي الخطوة التي ينبغي أن تتم خلال الأيام القادمة.

أما ما الذي سيحدث بعد الحل، فالمطروح بدائل أو سيناريوهات عدة، أهمها أن الجيل الثاني من قادة الرفاه، الذين لم يكونوا على وفاق أو ولاء مع مؤسس الحزب وشيخه (الخوجه) نجم الدين أربكان، هؤلاءعزموا على تقدم الصفوف وتشكيل حزب جديد، إسلامي التوجه لكنه لا يخضع لتوجيه أو هيمنة الدكتور أربكان، والمتواتر في استانبول وأنقرة أن الطيب أردوغان، رئيس بلدية استانبول السابق والشخصية القيادية الذي يحظى باحترام وإجماع مختلف القوى السياسية، الاسلامية وغير الاسلامية، هو الرجل الذي يقف وراء إنشاء الحزب الجديد الذي يفترض أن يأخذ مكان حزب الفضيلة، وإليه سينضم أغلب إ-ن لم يكن كل- النواب الذين سوف يستقيلون من البرلمان.

لا يقف كثيرون أمام كون الطيب أردوغان ممنوعا من المشاركة في الحياة السياسية بحكم المحكمة التي أدانته في السابق بتهمة إثارة الكراهية بين أبناء الشعب التركي وتهديد العلمانية، بسبب خطبة ألقاها في احدى المناسبات.

ذلك أن مثل تلك القرارات كثيرا ما لا تؤخذ على محمل الجد، لأنها تطبق في ظرف سياسي معين، ثم تنقض في ظرف لاحق. وأغلب السياسيين الأتراك تعرضوا لمثل ذلكالحرمان في السابق وفي المقدمة منهم سليمان ديميريل رئيس الجمهورية السابق، وبولند أجاويد رئيس الوزراء الحالي، ونجم الدين أربكان الذي حرم من الاشتغال بالسياسة في مرحلة ثم ألغي الحظر وعاد إلى الحلبة، لكنه منع مرة ثانية هي القائمة الآن. في كل الأحوال فالمرشح لقيادة الحزب الجديد، الذي لم يعرف اسمه بعد، هو الدكتور عبد الله جول الذي كان أحد وزراء حكومة أربكان، وبدوره يحظى باحترام كبير وله شخصيته المستقلة. ولذلك فإنه لم يكن محسوبا على الخوجة حتى وهو في حزب الرفاه أو في الحكومة.

وإذا كان حل حزب الفضيلة سيكون بمثابة >هزة أرضية< في الساحة السياسية التركية، إلا أن الزلزال المتوقع سوف يتمثل في تصاعد المواجهة الحاصلة بين رئيس الجمهورية أحمد نجدت سزر وبين الحكومة بسبب القانون المراد إصداره، الذي يقضي بفصل العاملين في الدولة من وظائفهم إذا ثبتت بحقهم أية أنشطة إسلامية. وهذاهو السبب الثاني في السياق الذي نحن بصدده.

إذ المعروف أن الحكومة تعطى في حالات الضرورة حق إصدار القوانين أثناء العطلة البرلمانية، وهو ما تقره أكثر الدساتير. ومعروف أيضا أن مجلس الأمن القومي التركي الذي يتحكم الجيش في قراراته كان قد طلب من الحكومة إصدار قانون يخولها حق فصل الموظفين الإسلاميين وغيرهم من ذوي الاتجاهات الانفصالية (الأكراد هم المقصودون بهذا الوصف)، سواء كانوا عاملين في الوزارات أو في جهاز الشرطة.

وكان الجيش قد دأب على استئصال الإسلاميين بهذه الصورة، وفصل ألوفا منهم خلال >وجبات تطهيرية< لصفوفه استمرت خلال السنوات الأخيرة. وقبل سنتين طالب الحكومة باتخاذ خطوة مماثلة >لتطهير< الوزارات وجهاز الشرطة من الوجود الإسلامي. وقيل وقتذاك إن >الاستئصال< المنشود لن يحقق مراده إذا استمر >التطهير< في الجيش وحده، وبقيت البذرة الإسلامية تنمو في أجهزة الدولة الأخرى.

ولما كانت الحكومة تعرف أن مشروع قانون من هذا القبيل يتعذر تمريره في البرلمان، لأنه لن يحظى بالأغلبية، لذلك فإنها آثرت أن تعده وتصدره أثناء العطلة البرلمانية. وهو ما حدث بالفعل، لكن المخطط أفسده رفض رئيس الجمهورية التوقيع عليه، باعتباره معارضا للدستور. ولأن الرجل كان رئيسا سابقا للمحكمة العليا، عرفت عنه الاستقامة والصرامة، فإنه رفض الاستجابة لضغوط الجيش والحكومة. وقال إنه لن يوقع المشروع إلا إذا أقره البرلمان، ثم إنه تحفظ على نصوصه التي اعتبرها مخالفة للدستور فضلا عن أنه لم ير هناك ضرورة ملحة تستوجب إصداره في غيبة البرلمان.

وربما كان من أغرب النصوص وأكثرها فجاجة تلك التي تخول الوزير في أي وزارة حق فصل أي موظف يشهد اثنان من زملائه بأن له نشاطا إسلاميا، ويوقع رئيسهما على ذلك. هكذا دون محاكمة أو تحقيق أو دفاع، ناهيك من أن ذلك مما يمكن افتعاله بسهولة بالغة لطرد أي شخص غير مرغوب فيه من وظيفته.

الآن أصبح السؤال الكبير هو : ماذا ستفعل الحكومة بعد عودة البرلمان للانعقاد؟ ما هو موقف الجيش من رئيس الجمهورية الذي أفسد اللعبة على قيادته، وعطل إصدار التشريع الغريب، وماذا سيكون العمل إذا ما عرض المشروع على البرلمان ورفض إقراره؟

تتحدث الدوائر المعنية عن إصرار الجيش على موقفه من ضرورة طرد ذوي الميول الإسلامية من الحكومة، وعن أن هناك قائمة تضم أسماء 13 ألف موظف يمثلون الوجبة الأولى المطلوب الخلاص منها في مخطط الاستئصال الموضوع.

وهو رقم كبير خصوصا إذا اعتبر فصل هؤلاء مجرد خطوة يفترض أن تتبعها خطوات، الأمر الذي يتعذر احتماله وتمريره بسهولة في الساحة التركية.

السبب الثالث الذي أزعم أنه سوف يسهم في رفع درجة التوتر في الخريف يتمثل في أن الحكومة ذهبت بعيدا في مسعاها الاستئصالي للتوجه الاسلامي لخريجي الجامعات الاسلامية في الدول العربية والاسلامية. فهي لم تكتف بعدم الاعتراف بشهادات تلك الجامعات التي التزمت صمتا مذهلا ولم تحاول الدفاع بأية صورة عن كرامتها العلمية، ولكنها قررت أن تطبق القرار بأثر رجعي. وذلك يعني عمليا فصل آلاف الموظفين من دوائر الحكومة. رغم أن تعيينهم في تلك الوظائف قد مرت عليه سنوات طويلة، باعتبار أن الشهادات التي عينوا بمقتضاها لم تعد الحكومة تعترف بها.

وإذا أضفت عدد المراد اخراجهم من وظائفهم بحجة أنهم إسلاميون إلى أولئك الذين سيفصلون لمجرد أنهم درسوا في جامعة الأزهر أو كلية الشريعة بالأردن أو الجامعة الإسلامية في إسلام آباد أو نظيرتها في كوالالمبور، فستجد أننا بصدد مشهد عبثي يتعذر قبوله أو تصوره بأي معيار، وقد لا تستغرب إذا ما أحدث لك صدى في الداخل اتسم بحمق أو جنون مماثل.

في هذا الصدد فإن المرء حين يستعرض الإجراءات التي تتخذها الحكومة، فسوف يستعصي عليه قبول فكرة أن تلك الإجراءات يراد بها مواجهة التطرف أو الأصولية أو حتى الدفاع عن النظام العلماني.

فإذا نحينا جانبا موقف العسكر والحكومة من الموظفين وحملة الشهادات الاسلامية، فسنجد أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة تكاد تصب باتجاه استئصال الإسلام ذاته من تركيا. وضع خطاً تحت كلمتي تكاد وتصب، حيث لا أقطع بذلك وإنما اعتبره احتمالا قائما، ولا أقول بأن الاستئصال الذي أتَحَدَّت عنه هو الذي حرك تلك الإجراءات، وإنما قد تكون لها دوافع أو أوهام سياسية أو أمنية، لكني أزعم أنه أيا كانت الدوافع فالشاهد أن تلك الإجراءات >تصب< في وعاء استئصال الإسلام في نهاية المطاف.

فمن منع الفتيات من ارتداء الحجاب حتى في المدارس أو الجامعات الخاصة، إلى إلغاء التعليم الديني وصرف الأولاد عن الالتحاق بمدارس الأئمة والخطابة، بعد مد مرحلة التعليم الأولى من خمس إلى ثماني سنوات، إلى منع خريجي مدارس الأئمة والخطابةمن دخول الكليات العلمية أو الكليات النظرية الأخرى. وعدم السماح لهم بوماصلة التعليم الجامعي إلا من خلال كلية الالهيات. هذه الاجراءات كلها، إذا قدر لها أن تستمر، من شأنها محو الاسلام من تركيا خلال عدة عقود قليلة، وفي الحد الأدنى، فإنها تكرس تجهيل الناس بالإسلام، الأمر الذي يفتح الأبواب واسعة لشيوع الأفكار المنحرفة التي تنمو في الظلام، بما يستصحبه ذلك من شرور نعرفها جيدا. وإذ يظن هؤلاء أو يتوهمون أنهم يحمون النظام العلماني فإنهم في حقيقة الأمر يبثون في جنباته بأمثال تلك الممارسات ألغاما يعلم الله وحده متى يمكن أن تنفجر وما هي الأضرار التي يمكن أن تترتب على انفجارها.

وعلى ذكر النظام العلماني، فأحسب أن الذين يتصرفون على النحو الذي مررنا به باسم الدفاع عن العلمانية، يهدوننا من حيث لا يحتسبون دليلا دامغا على أن العلمانية في بعض تطبيقاتها لا تخرج عن كونها ديكتاتورية غليظة وحمقاء. الأمر الذي يقطع بأن الليبرالية ليست بالضرورة قرينة العلمانية كما يدعي البعض في عالمنا العربي ممن يرفعون شعار >العلمانية هي الحل<. وإذا ما تأمل هؤلاء عبرة النموذج التركي فسوف يدركون أنهم يسوقون بيننا شعارا زائفا فاقد الصدقية، وأن العلمانية التي يتعبدون بها أثبتت في تركيا بما لا يدع مجالا للشك أنها ليست محصنة ضد الاستبداد. وأن الذي يصون البلاد والعباد حقا هو مجتمعات مدنية قوية، تجعل من نزوع أي نظام إلى الاستبداد أمرا عصيا أو باهظ التكلفة. وذلك يسرى على الأنظمة العلمانية بقدر ما يسري على الأنظمة الاسلامية. والله أعلم.

الشرق الأوسط ع 00/9/11

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>