الجالية المغربية بالخارج بين الأوضاع والواجبات


دوافع التواجد :

كان لتواجد عدد كبير من جاليات الدول الإسلامية -ومنها المغرب- بدول أوروبا الغربية وبالولايات المتحدة وكندا أسباب متعدّدة، منها ما يتعلّق بأحوال هذه الجاليات أصلا في بلادها ومنها ما يتعلّق بواقع هذه الدول نفسها، فقد شهد المغرب وغيره من أقطار العالم الإسلامي فترة حكم استعماري أضعف البلاد وأفقر العباد، وترك واقعا سيِّئا من الأمية والجهل والاستبداد والفاقة والتخلف والعوز الحضاري عموما؛ فضلا عن ترسيخ حال ارتباط كل قطر بالدول التي استعمرته وحاجته إليها، كما هو حال مصر مع انجلترا وموريتانيا مع فرنسا وموزمبيق مع البرتغال. كما أن دول أوروبا الغربية قد شهدت توالي حربين عالميتين كانت أراضيها مسرحا لهما. وقد خلفت الحربان دمارا ذريعا في العمران. وممّا خلفته هذه الحرب أيضا مع أسباب أخرى خصاصا في اليد العاملة.وشهدت هذه الدول أيضا بالإضافة إلى كندا والولايات المتحدة تطورا تقنيا صناعيا هائلا بعد هاتين الحربين، فنتج عن ذلك تطوّر في مستوى المعيشة زادت معه الأنفة من المهن الوضيعة والمتوسطة والخطيرة. كما أنّ شريحة الأعمار -لظروف متعدّدة- ارتفعت في كلّ هذه البلدان مع انخفاض بيِّن في مستويات التزواج والتناسل. كل هذه الدوافع تظافرت لتجعل من الهجرة ظاهرة من أكبر الظواهر التي ميّزت النصف الأخير من القرن العشرين. وقد كان للمغرب نصيب وافر من هذه الهجرة، وكان لفرنسا نصيب وافر من الهجرة المغربية. ولم يقتصر المغاربة عى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا وألمانيا وغيرها من دول غرب أوروبا حيث يتواجدون بأعداد وافرة. وإنّما صاروا حالا بيّنة في كندا والولايات المتحدة وفي المشرق العربي؛ بل حتّى في دول نائية مثل روسيا واليابان وأستراليا؛ أو متخلفة كدول افريقيا وشرق أوروباأولها وضعية خاصّة كفلسطين المحتلة.

شرائح الجالية المغربية بالخارج :

إذا ما ركزنا على أوروبا الغربية حيث أكبر تجمّع للجالية المغربية على نطاق الأفراد والجماعات والأسر والعائلات فإنّ الشريحة الأولى لهذه الجالية تتكون من ناس أمّيّين بسطاء وافدين من مدن وقرى وبوادي المغرب، ومعظمهم من البوادي، وقد كانت هذه الشريحة تعاني في مناطقها الأصلية البطالة والتهميش. فهي مطبوعة أصلا بحال الفقر وصفة الانيهار الحضاري والانبطاح التّام أمام الآخر. وقد انعكست هذه الأحوال على أطفال هذه الشريحة ممّا جعل عمومهم لا يتجاوز سقفا محدودا من التعليم والمعرفة في بلاد الغرب ويفقد التوجيه والتربية المنهجية لاكتساب الهوية وتحقيق المناعة والتحرك بشكل سليم وصحيح في المجتمع الغربي والتطوّر أكثر. وقد أضحى العديد من هؤلاء الأطفال ضحية لواقع الاستلاب والتذويب والانحراف والمخدرات والتيه والتماهي في الآخر. والشريحة الثانية بعد هذه مثلها الطلبة المتوافدون دفعات سنة عن سنة على أوروبا. هذه الدّفعات هي الأخرى لم تكن تكسب مناعة لدى وصولها إلى أوروبا. وقد كانت تعاني واقع الاستلاب أصلا في بلادها، وإن لم تكن تعيش واقع الأمّية فقد كانت تعيش واقع الجعل. هذا الجهل الذي تركب وتعقّد بوصولها إلى أوروبا، ووقوعها تحت هيمنة المناهج الدراسية هناك وأساليب الحياة، وقد راحت جملة هذه الشريحة ضحية بشكل أو بآخر؛ فمعظمها لم يتمّم دراسته ولم يحصل على عمل، وجملة عادت بقولبة غربية إلى البلاد، وجملة استمرّت هناك في مواقع الفعل والعمل ضمن المؤسسات الغربية فيما ينفع هناك أكثر ممّا ينفع هنا.

تبقى هناك شرائح أخرى وهي أقلّ عددا، منها الأطر العليا المهاجرة، ومنها أصحاب اللجوء الحقوقي والسياسي والمنفى الاضطراري أو الاختياري. جملة من هؤلاء فاعلون إيجابا سواء في مواقعهم هناك أو من مواقعهم في بلادهم دعما أو تنويرا أو تواصلا : ضمن هذه الفئات تعدّ جملة من ذوي الاختصاص الفكري والثقافي والدّعوي والاقتصادي، فئة منهم همّها الكسب والارتزاق واستغلال التطوّر التقني في الغرب والهروب من الواقع المحلّي لأجل اكتساب الموقع وتحقيق الذّات والنزوات ليس إلاّ. وفئة أخرى لها بالفعل تأثير إيجابي هناك سواء على الجالية الإسلامية أو على الغربيين أنفسهم أو تأثير من هناك على الواقع هنا من أجل الدّعم المادّي والمعنوي.

مشاكل الأجيال الإسلامية المغربية بالخارج :

لقد أصبحت الجالية المغربية بالغرب تشكّل أجيالاً مختلفة الأحوال والمشاكل. فجيل الشيوخ والكهول يعاني الغربة الحقيقية والعنصرية والصدمة. هذه الصدمةمرجعها الرئيسي البعد عن الوطن وضياع الأسرة وانحراف الأبناء والرزية في هويتهم أو الخوف من ذلك ومن غموض المستقبل. وهناك جيل الشباب الذين نشأوا في المغرب وتربّوا فيه، واستمرّوا في الغرب فهم يعانون من الانفصام والغربة المزدوجة، إذ هم غرباء هناك من جهات وغرباء هنا من جهات أخرى يعانون أيضا القلق والخوف على مستقبلهم المتأرجح بين الاستمرار في بلاد الغربة والعودة إلى الوطن؟؟ وهناك جيل الأطفال الذين ولدوا هناك على أرض بالنسبة لهم هي أرض المولد والنشئة والتربية والأفق والقرار. لكنّهم سيجدون أنفسهم بين أغلبية أجنبية في الدّين واللغة وأنماط العيش وأساليب الحياة. تعتبرهم أجانب وتنظر إليهم بزراية كما تنظر إلى آبائهم وأوطانهم الأصلية. وهذا جيل ستولّد لديه مشاكل أخرى من فرط هذه المعاناة وتلك الأسباب.

وإذ أنّ معظم هذه الجالية لم تعد تفكر بالعودة النهائية إلى أرض الوطن، بل إنّ الأجيال المتلاحقة صارت تتجنّس بجنسية تلك الأقطار فإنّ الأمر يستدعي الوعي بالأحوال وتظافر الجهود لوضع مشاريع وبرامج للإنقاذ والفعل الإيجابي من أجل تثبيت الهوية وتحقيق الكرامة وتحسين الأحوال، وذلك من طرف المسؤولين على المستويات المختلفة التربوية والثقافية والدعوية والحقوقية والإعلامية والجمعوية وما سواها، سواء في مواقع التواجد من طرف منذوبي الجاليات ونخبها ومنتخبيها والمتطوّعين بالخير، أو من طرف المسؤولين في الوطن من مختلف مواقعهم وزوايا رؤاهم وفعلهم.

المهامّ وسبل الانقاذ :

أمام هذه التحديات وغيرها يبقى أمام الجالية المغربية في المهجر ومسؤوليها بالخصوص هناك أو في أرض الوطن، أن تهتمّ بنقاط الانقاذ التي من أهمّها :

< المحافظة على الهوية :

وفي طليعتها هذا الدّين الذي يعتبر مقدّسا ضامنا للوحدة الوطنية، إذ أنّ كلّ المغاربة مسلمون، ومن وسائل تحقيق هذا الغرض بناء المساجد والحفاظ عليها وصيانتها مع تفعيل دورها؟ وبناء المراكز الإسلامية مع توسيع نطاق تأثيرها؛ وتشجيع دورس الوعظ والإرشاد وخطب المنابر والمناسبات والدعوة والتنوير والعروض والمحاضراتوالندوات والقنوات الإعلامية المتخصصة في شؤون الدّين وهموم الهجرة ومواجهة الاستلاب الحضاري والتصدّي للتغريب والتذويب؛ وتكوين ودعم الوداديات والجمعيات والنوادي الخاصّة بذلك. أمّا بالنّسبة للنّاشئة من الجيل الصاعد فلابدّ من الروض الإسلامية ومدارس تدريس الدّين واللغة والقيم الإسلامية والإصدارات والقنوات الإعلامية المتخصصة. ومن تكوين جمعيات خاصّة بالأطفال والنّاشئة واليافعين والشباب وإقامة نوادي ومخيّمات. والعمل على ربط الطفل بالمصحف والمسجد والكتاب الإسلامي واللغة العربية والرفقة الصالحة.

وعلى النخبة التفكير المتواصل والعمل الدّؤوب على توسيع نطاق الدّعوة ومجالاتها، بحيث لا تبقى منحصرة في الوعظ والإرشاد، بل تمتدّ إلى الفكر والثقافة والإعلام واستثمار الوسائل السمعية البصرية والجريدة والمجلة والكتاب والفنون والنوادي والجمعيات، والعمل على إدماج الشرائح المختلفة للشباب المسلم في أوراش التنوير والتثقيف والعمل التطوعي والاجتماعي حتى تتمتّن الحصانة وتتقوّى المناعة.

< تحقيق الكرامة :

لاشكّ أن النظرة الاستعلائية تطغى على كثير من شرائح المجتمع الغربي تجاه العرب والمسلمين والعالم الثالث. ومرجع هذا إلى فئة المهاجرين الموجودين هناك وأيضا إلى التربية الحاصلة عند هذه الشرائح الغربية. فينتج عن ذلك التمييز العنصري والازدراء والتهميش والاعتداء أحيانا. فلكي تتحقَّق كرامة المهاجر لابدّ أوّلا من الثقة في الذات وفي الانتماء الحضاري، ومن ثمّ الإحساس بالهوية وتحصيلها والدفاع عنها. ثم ّ الوعي بالحقوق والواجبات، والتفاعل الإيجابي مع المؤسسات الغربية إداريا وقانونيا وتطوير المهارات في هذا الشأن وفي العلوم والتقنيات وأساليب المدينة الحديثة مع تمييز ذلك عن الذوبان الثقافي والحضاري. إنّ تحصيل الكرامة يبدأ من خلال احترام الذات واحترام المبادئ وتثبيت الهوية وتجسيد سلوك ينسجم مع هذه الأسس والمسلمات فيكون هذا عاملا مهمّا في إعطاء المصداقية وفرض احترام الآخر. ولابدّ لتحقيق الكرامة والمحافظة عليها من تأسيس وولوج المؤسسات الخاصّة بذلك ومواصلة النضال من خلالها ومن ذلك الجمعيات والأحزاب والنقابات.

< نشر الدّعوة :

هذا واجب ومهمّة، إن كانت راسخة أصلا كقناعة فإنّها حافز كبير لتحصيل ولتثبيت القناعتين السابقتين. وإلاّ فينبغي أن تكون لاحقة بهما لاستهداف الأغراض المذكورة. ثمّ من باب الوعي بها كواجب، لأن كل مسلم يتحتّم عليه واجب الدّعوة بما لديه من علم ومن حال، ومهما كانت ظروفه. وللّدعوة واجب أول تجاه المسلمين الذين منهم أهل البيت والأقارب والجيران وأهل الحيّ وزملاء ا لعمل؛ ثم عموم المسلمين في الحضر والسفر. فلا تعفي الغربة ولا ظروف العمل والشغل والحياة من هذا الواجب فهو تكليف شرعي لا يحتاج لوظيف أو تفرّغ. ومن أغراض الدّعوة في هذا المضمار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتذكير بالفرائض والواجبات وبالسنن والمستحبّات. والتحذير من المحرمات والمنكرات والقيام بالواجب التربوي تجاه الأهل والأبناء والناشئة، وترسيخ مبادئ العقيدة والشريعة، والتوعية بمراميها ومقاصدها، وتقوية الإيمان لمواجهة مختلف أساليب الفكر والجاهلية والفتنة والإغراء والإغواء.

ثمّ هناك نطاق أوسع لمجال الدّعوة يقتضيه الإسلام لأن الدّين عند الله الإسلام، وهو الدّين الأوحد النّاسخ الجامع المانع، فيكون عندئذ غير المسلمين أيضا معينون بدعوة الإسلام. ودعوة هؤلاء إلى الإسلام تبدأ من ترسيخ الهوية وتحقيق الكرامة والثقة في الذات وفيما يحمله المسلم من مبادئ ويمارسه من قناعات؛ ويجسد كل هذا مع أبعاده في السمت والسلوك والأخلاق، وتحقيق انسجام الأقوال مع الأفعال. ومن هنا فإنّ من أساليب التبليغ اعتماد اللغة الأجنبية لترجمةمعاني الوحي الكريم من قرآن وسنّة وكتب الدّعوة ورسائلها ومرامي الرسالة الإسلامية عموما. وتبسيط شرح مبادئ الإسلام لغير المسلمين لأجل  اقتناعهم به واعتناقهم له. أولا لأجل احترامه واحترام المسلمين عن جدارة ووعي إن لم يتحقق ذلك أو في طريق تحقيقه.

إنّ من طبيعة الحضارة الإسلامية أن تستوعب الغالب فضلا عن استيعابها للمغلوب وتنشيطه وتقويته، ويعتبر عامل الثقة في الله وفي دينه ثم في الذات بعد ترسيخ الهوية وتقوية المناعة، يعتبر رافعة قوية لنشر دعوة الإسلام، وقد تحقّق هذا بالفعل مرارا في التاريخ وفي أماكن مختفة، كما وقع مع التّتار ومع شعوب جنوب شرق آسيا وافريقيا ومناطق مختلفة من أوروبا.

وكل مسلم إنما هو على ثغر من ثغور الإسلام، والمهاجرون في ديار غير الإسلام يعدّون على ثغور متقدّمة حيث هم، فليحذوا ولنحذر أن يؤتى الإسلام من هذه الثغور.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>