حقوق الأقليات الإسلامية… معركة أم قضية؟ الأمل في جيل المسلمين الجديد في الغرب


في الاتحاد الأوروبي لا تزيد نسبة الزيادة السكانية السنوية على 0,3% ولو حذفنا زيادة عدد الوافدين الذين لا يحملون الجنسيات الأوروبية ومواليدهم، لتحولّت الزيادة السكانية إلى نقصان سنوي في صفوف أهل البلاد الأصليين، وهو دون ريب نقصان كبير لو حذفنا علاوة على ذلك من يحمل الجنسيات الأوروبية من غير ذوي الأصل الأوروبي، لاسيما المسلمين وتقول الدراسات المستقبلية، إن عدد سكان أوروبا بكاملها، البالغ حاليا 727,7 مليون نسمة، سينخفض عام 2025م إلى 718,2 مليون نسمة بينما سيرتفع عدد سكان العالم من 5804 ملايين نسمة حالياً إلى 8294 مليون نسمة.

في ألمانيا كمثال كان عدد المواليد بجنسية ألمانية عام 1995م -آخر الأرقام الرسمية المتوافرة- في حدود 665 ألفا والأجانب 100  ألف  أي بنسبة 13% من الولادات بمجموعها، بينما تبلغ نسبة الأجانب 8% من مجموع السكان، وكان عدد الوفيات في العام نفسه حوالي 870 ألفا من الألمان فكانت الحصيلة نقص حملة الجنسية الألمانية بما يعادل 205 آلاف نسمة، بينما كان عدد وفيات الأجانب في حدود 13 ألفا، فكانت الزيادة في حدود 87 ألفاً، واستخدام تعبير >حملة الجنسية الألمانية< مقصود، فالسكان الألمان اليوم يشملون نسبة عالية من غير ذوي الأصل الألماني، يشير إليه أن عدد الحاصلين على الجنسية الألمانية في عام 1995م أيضا كان في حدود 260 ألفاً.

المسلمون.. والخارطة السكانية

المقصود من ذكر هذه الأرقام تأكيد خطأ النظرة إلى أوضاع المسلمين في الغرب عموماً، دون أن يراعى موقعهم من تطور الخارطة السكانية في البلاد، وهذا ما يشمل أيضا التبدلات الجذرية الحاصلة على خارطة توزيع الأعمار، ففي الوقت الذي ينتظر فيه أن ترتفع نسبة فئة المتقاعدين حتى تصل إلى الثلث خلال ربع قرنتقريباً، ينتظر أن ترتفع حصة المسلمين من فئة الشبيبة إلى الضعف على أقل تقدير خلال الفترة نفسها، بسبب ارتفاع معدل المواليد المسلمين.

كما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في الوقت الحاضر أن عدد الذين يعتنقون الإسلام من أهل البلاد الأصليين في ارتفاع غير معتاد من قبل، وصحيح أنه لا تتوافر إحصاءات رسمية عن ذلك، كذلك فإن الأرقام الواردة عن أعداد المسلمين عامة تميل إلى تخفيض نسبتهم قدر الإمكان، ولكن من يعايش المجتمع بصورة مباشرة يستطيع أن يرصد من المحيط الذي يعيش فيه أنباء اعتناق الإسلام، لاسيما من جانب الشبيبة والناشئة، بصورة تبلغ خلال شهر واحد أضعاف ما كان يرصده خلال عام أو عدة أعوام قبل جيل واحد.

والمسلمون في الغرب في الوقت الحاضر عدة فئات، تتضاءل بينهم فئة الوافدين من البلدان الإسلامية قديماً، وترتفع نسبة أولادهم وأحفادهم الذين ولدوا ونشأوا في الغرب، وكذلك نسبة معتنقي الإسلام من أهل البلاد الأصليين، وهذا بالذات ما يتطلب تعديل النظرة إلى قضية >الأقليات الإسلامية< في البلدان الغربية وعلى وجه التحديد الأوروبية، بصورة جذرية، فهي لم تعد قضية حقوق أجانب بإقامات مؤقتة وفي ظروف معقدة، إنما هي قضية فريق من أهل البلاد الأصليين، يتمتعون من الناحية النظرية بحقوق لا تختلف -نظرياً- من حيث الأصل عن حقوق الفئات الأخرى من الغالبية النصرانية.. ناهيك عن القلة اليهودية.

حقوق الأجانب تتعرض من ناحية التشريعات القانونية والتعامل السياسي إلى الخطر نسبياً، وهو ما تلعب فيه عوامل عديدة في مقدمتها ارتفاع نسبة الوافدين من البلدان الشرقية بعد سقوط الستار الحديدي ارتفاعاً كبيراً، وانتشار الجريمة المنظمة في صفوف هذه الفئة عبر الحدود الأوروبية المفتوحة انتشاراً متزايداً، ثم ارتفاع البطالة في الدول الأوروبية بتأثير عوامل لا علاقة للأجانب بها، ولكن تستغلذلك الأحزاب اليمينية المتطرفة استغلالاً كبيراً لزيادة العداء تجاه الأجانب عموماً، وإذا لاحظنا أن المسلمين من بين الأجانب هم المتميزون عن سواهم، شكلاً وسلوكاً وثقافة، وأنهم يمثلون نسبة عالية تناهز نصف الأجانب في بلد كألمانيا، وتقدر بما يتجاوز 25 مليوناً في البلدان الأوروبية بمجموعها، فيمكن أن نقدر أن >الأخطار تصيبهم أكثر من سواهم، لاسيما وسط تصعيد الحملة العالمية المعادية للإسلام عموماً، داخل أرضه وليس في الغرب على وجه التحديد.

عداء الأصوليين العلمانيين

هذه الحملة لا تستند إلى >غالبية السكان< ولم يعد مصدرها الرئيس >دور الاستشراق< التقليدية، بل أصبحت مصادرها ودوافعها الرئيسية خليطاً من الأغراض السياسية والاقتصادية والثقافية الفكرية، بمعنى الثقافة والفكر على الطريقة الإلحادية العلمانية، ويسيطر هذا الاتجاه على مواقع اتخاذ القرار في الميادين التوجيهية، بدءاً بالإعلام، مروراً بالمراكز الفنية والأدبية، وانتهاء بمعاهد الدراسات على أعلى المستويات السياسية والاقتصادية والفكرية، ولكنهم أقلية في المجتمع الغربي، كما هو الحال مع مقلديهم في كثير من البلدان الإسلامية، يلفتون الأنظار أكثر من سواهم لقدرتهم على اصطناع الضجيج عبر مواقع صنع القرار التي وصلوا إليها في مرحلة سابقة، وهذا ما يشمل تعاملهم مع الإسلام والمسلمين في البلدان الغربية، وقد تضاعفت حملاتهم في الوقت الحاضر لأسباب عديدة، منها انهيار الشيوعية في الشرق والذي اقترن بانتشار اقتناع عام.. أن >الإلحاد< قد سقط مع الشيوعية، ومنها الخوف من الصحوة الإسلامية التي انعكست بمظاهرها على أرض الواقع على مختلف المستويات داخل البلدان الإسلامية وخارجها، ومنها لعبة المصالح الدولية المقترنة في الوقت الحاضر بظاهرة العولمة، وما تعنيه من مساعي القوى المسيطرة مالياً لترسيخ سيطرتها عالميا، هو ما لا يمكن  أن يتم عبر الوسائل المالية المحضة، بل يعتمد اعتماداً أساسياً على إزالة >الحواجز الجمركية< من الفكر والقيم والخصوصيات الثقافية والحضارية في مختلف أنحاء العالم.. إلى جانب إزالة >الحواجز الجمركية< الاقتصادية والتجارية.

ويأتي تصعيد الحملات الأصولية العلمانية متزامناً مع انتشار ظاهرة معاكسة تتمثل في اتساع رقعة >التفهم< تجاه الإسلام والمسلمين في الغرب، والبحث عن وسائل للتعايش والحوار بدلاً من الصدام والتقييد، وهي رقعة وصلت بتأثيرها إلى مستوى المسؤولين عن صناعة القرار السياسي، ولهم منطلقاتهم كالمخاوف من انتقال شرارة أحداث العنف في بلد كالجزائر إلى أوروبا، وسط تزييف شعارات إسلامية من ورائها أو إحاطة حقائق المسؤولين عن دمويتها بالغموض،  ولكن كان من نتائج هذا التطور انفتاح جهات سياسية وكنسية في ألمانيا على ممثلي الحركات والجماعات الإسلامية، أو استجابة السلطات البريطانية بعد امتناع دام عشرين عاماً لمطلب من مثل فتح مدرسة إسلامية تحصل على الحقوق الموازية لمدارس طوائف دينية أخرى، أو استجابة السلطات الإسبانية للأخذ بمنهج تدريس الدين الإسلامي في منطقة سبتة التي تسيطر إسبانيا عليها في شمال إفريقيا، أو تراجع الحكومة الفرنسية الجديدة -ولو جزئياً- عن بعض بنود القوانين المتشددة الصادرة ضد الأجانب قبل عامين في عهد اليمين الفرنسي.

لا يعني ذلك أن الضغوط قد ارتفعت وأن المسلمين قد حصلوا على حقوقهم فعلاً، ولكن يبدو أن المسؤولين عن صنع القرار السياسي أدركوا أخطاء الصيغ الماضية، والتي تأرجحت ما بين العمل على >ذوبان المسلمين< في المجتمع الغربي، وبين التطرف في التعامل معهم إلى درجة أقرب إلى التمييز العنصري والديني. إن ردود الفعل الإسلامية في صورة مزيد من الإقبال على الإسلام على مستوى الشبيبة بصورة خاصة، ساهم ولا ريب في إخفاق هدف >إذابة الشخصية< المسلمة في الغرب عموماً، وهو ما يدفع إلى توسيع نطاق الدعوة إلى >التعدد الثقافي< المشروط، على أمل >استيعاب< التوجه الإسلامي بدلاً من الوصول معه إلى مرحلة عداء لا تعايش معه.

ولا ريب أن تطور سلوك المسؤولين في الجماعات الإسلامية نفسها تطوراً إيجابياً قد ساهم في ردود الفعل الإيجابية أيضاً من جانب المسؤولين، ولاسيما أن بين الطرفين أرضية بدأت ملامحها تظهر للعيان تدريجيا، فحملة القوى الأصولية العلمانية المتنفذة في الميادين التوجيهية، لا تستهدف الإسلام.. والأسرة المسلمة.. والفرد المسلم… فحسب، بل تستهدف الدين عموماً، والأسرة عموماً، والفرد عموماً، القيم، أو البقية الباقية من القيم، الأسرية على الأقل، عرضة لخطر كبير، لحساب سيطرة المال الذي يصنع القرار الثقافي والفكري، في ظل قوى تملك طاقات كبرى، تزداد خطورتها ظهوراً للعيان، على أصل وجود المجتمع الغربي لتطويعه نهائياً، وليس على الوجود الإسلامي في المجتمع الغربي فقط.

الجيل الجديد

صحيح أن الاتجاه العلماني هو الغالب على مختلف الفئات الغربية.. ولكن لابد من التمييز بين من سبق وصفهم بالأصوليين العلمانيين، الأقرب إلى الإلحاد المطلق، وأولئك الذين تغلب عليهم تصورات تقول -حسب اقتناعاتهم- بوجود موقع للدين وقيمه في إطار ما يسمى >المجتمع المدني< وهو إطار إذا كان لابد من إعطائه المنطلق الإسلامي العقيدي والحضاري داخل البلدان الإسلامية، يبقى هو الإطار الممكن والمقبول للمسلمين في بلدان غير إسلامية، حيث من الخطأ النظر فيها إلى حقوق المسلمين إلا على أنها حقوق >أقليات< تحفظها الدساتير والمصالح المشتركة، ولا تتناقض في جوهرها مع حرص المسلم على أن يعيش إسلامه في بلد أجنبي، باستثناء جزئيات وضع الإسلام لها قواعد تطبيقية على أساس مبادئ التيسير والسماحة.

ولابد هنا من تأكيد أمر أساسي أصبح موضع التساؤل بشكل متزايد في أوساط المسلمين، لاسيما أولئك الذين يحملون الجنسيات الأوروبية، وفي مقدمتهم الجيل الجديد من الشبيبة وهو >الحقوق السياسية< للأقليات الإسلامية التي تمثل بمجموعها ما بين 3 و4% من سكان أوروبا عموماً باستثناء البلدان ذات الغالبية الإسلامية كألبانيا والبوسنة والهرسك، وما بين 4 و5% من سكان غرب أوروبا، وما يرتبط بالحقوق السياسية من إمكانات التأثير في ميادين أخرى، كالإعلام والمناهج المدرسية وسواها.

وهنا ينبغي النظر إلى مستقبل المسلمين في البلدان الأوروبية باعتباره >قضية< تحتاج إلى التخطيط والجهود المنظمة كما تحتاج إلى الحكمة وبعد النظر، وليس >معركة< يجب خوضها في صيغة صراع مع الطرف الآخر.. فالطرف الآخر هو المجتمع، الذي يريد المسلمون أن يحصلوا على حقوقهم المشروعة كجزء منه، ولا يمنع من ذلك وجود قوى علمانية، والجماعات التي يتحركون من خلالها على وجه التخصيص، لم يضعوا في الماضي هذه الحقوق السياسية والاجتماعية في مناهج عملهم، فلم يقطعوا على هذا الصعيد شوطاً كبيراً، وبمقدار ما يمكن التعويض عن ذلك الآن، يمكن الاقتراب من تحقيق هذا الهدف.

هذه الحقوق.. ليست >منحة< يعطيها المسؤولون في الدول الغربية، طوعاً، أو تحت الضغوط ولكنها -أي الحقوق- عبارة عن جزء من واقع التركيبة الاجتماعية في الغرب، تظهر للعيان بمقدار ما تمارس الفئات الإسلامية تلك الحقوق ممارسة متوازنة فعالة، لا يوجد مثلاً ما يمنع أن يكون للمسلمين في هذا البلد أو ذاك >حزب< من الأحزاب السياسية، ولكن ينبغي السؤال أولاً إذا كان هذا الهدف مطلوباً.. بمعنى هل يحقق مصالح المسلمين وحقوقهم أم لا، ما ميزاته وما مساوئه، وهل هو الصورة الأفضل أم الأفضل أن تتعدد مجالات التعبير عن الأهداف والمطالب المشروعة ووسائل تحصيلها، ثم إذا ساد الاقتناع بهذا الصدد، ما احتمال أن يكون مثل ذلك الحزب جامعاً للمسلمين، أم سبباً في تفرقتهم، ويمكن تعميم هذه التساؤلات على مختلف الأفكار الأخرى التي تطرح نفسها عن حقوق المسلمين في الغرب.

ولعل الجيل الجديد من الشبيبة سيكون أقدر على طرح الأسئلة والإجابة العملية عنها، فما يتوافر له من ميزان لم تكن تتوفر للوافدين من المسلمين قبل جيل أو جيلين، بدءاً بإتقان لغة البلاد كأهلها، وانتهاء بالنشأة على استيعاب أساليب تفكير أهل البلاد من غير المسلمين ووسائل التأثير المتبادل في التعامل معهم، ولا ينبغي أن تنزلق الجماعات الإسلامية إلى محاولة اصطناع >قوالب جاهزة< لتحرك هذا الجيل في المستقبل، وقد كان هذا هو السائد إلى وقت قريب، انطلاقاً من مخاوف كان لها ما يبررها، أنه معرض للذوبان تحت عنوان الاندماج، وللضياع من خلال ترسيخ إحساسه بأن الغرب -وليس البلدان الإسلامية التي ينتمي إليها الآباء والأجداد- هو موطنه الطبيعي، ثم المخاوف التي ترددت عن أنه يظهر في الغرب >إسلام غربي< يختلف عن الإسلام كما أنزله الله تعالى.

ولا تتوافر حتى الآن دراسات منهجية للحسم الموضوعي في مدى صحة هذه المخاوف أو إثبات خطئها، فضلاً عن دراسات مستقبلية ترسم بعض معالم العمل الهادف للجيل الجديد، ومثل هذه الدراسات هو ما نحتاج إليه في الوقت الحاضر، على ألا يكون منفصلاً عن الواقع الميداني للمسلمين في الغرب، ولا عن الجيل المعني بتلك الدراسات بصورة مباشرة، ولئن جاز في هذا الموضع تقدير ما يمكن أن ينطوي عليه المستقبل، استناداً إلى المعايشة اليومية على الأقل، فإن التفاؤل يغلب على مختلف أسباب المخاوف، بل يكاد يمكن الجزم بأن قضية مستقبل الإسلام والمسلمين في الغرب لن تحتاج إلى أكثر من جيل واحد، لتتحقق الأهداف والمطالب المشروعة، وليكون  للإسلام موقعه المؤثر في المجتمع، ولتكون للمسلمين مكانة إيجابية في تطور المجتمع الغربي نفسه، وكذلك في تطوير تعامله مع قضايا الإسلام والمسلمين عالميا.

المجتمع ع 98/7/7

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>