مع الصادقين : عزة المؤمن الأسير


من حفظ الله لدينه أن يهيء من يجدد أمر هذا الدين عندما تقع الفترة وتصاب الأمة بالانحطاط والانسلاخ عن هويتها، قال رسول الله  : >إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها< (أخرجه أبو داود في سننه رقم : 4291).

فمن مجددي القرن العشرين الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي الذي أبلى البلاء الحسن في تبليغ رسالة الإسلام في تركيا خاصة، وقد وقعت لهذه الشخصية الفذة أحداث كثيرة بينت صدقه  وإخلاصه لخدمة دين الله، وبهذه المناسبة نذكر حدثا وقع له حينما كان أسيرا بأكبر معسكر للأسرى في سبيريا، مع القائد الروسي نيقولا نيقولا فيج:

في يوم من الأيام عندما يزور نيقولا نيقولا فيج المعسكر المذكور للتفتيش -يقوم له الأسرى احتراما- وعندما يمر من أمام بديع الزمان لا يحرك ساكنا ولا يهتم به، مما يلفت نظر القائد العام فيرجع ويمر من أمامه مرة أخرى فلا يكترث به أيضا، وفي المرة الثالثة يقف أمامه، وتجري بينهما المحاورة الآتية بواسطة مترجم :

- أما عرفني؟

- نعم لقد عرفته، إنه نيقولا نيقولا فيج، خال القيصر والقائد العام لجبهة القفقاس.

- فلم إذن قصد الإهانة؟

- كلا! معذرة. إنني لم أستهن به. وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.

- وماذا تأمر العقيدة؟

- إنني عالم مسلم أحمل في قلبي الإيمان، فالذي يحمل الإيمان في قلبه أفضل ممن لا يحمله، فلو أنني قد قمت له احتراما لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي. ولهذا لم أقم له.

- إذن فهو بإطلاقه صفة عدم الإيمان علي يكون قد أهانني وأهان جيشي وأهان أمتي والقيصر، فَلْتُشَكَّل حالا محكمة عسكرية للنظر في استجوابه.

وتتشكل محكمة عسكرية بناء على هذا الأمر، ويأتي الضباط الأتراك والألمان والنمساويون للإلحاح على بديع الزمان بالاعتذار للقائد الروسي وطلب العفو منه إلا أنه أجابهم بالآتي :

>إنني راغب في الرحيل إلى دار الآخرة والمثول بين يدي الرسول الكريم . فأنا في حاجة إلى جواز سفر فحسب للآخرة. ولا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني…<

وتجاه هذا الكلام يؤثر الجميع الصمت منتظرين النتيجة. وتنهي المحكمة أعمالها بإصدار قرار الإعدام بموجب مادة إهانة القيصر والجيش الروسي. ويقاد بديع الزمان إلى ساحة الإعدام فيقوم إلى الضابط الروسي قائلا له بابتهاج : اسمحوا لي خمس عشرة دقيقة فقط لأؤدي واجبي.

فيقوم إلى الوضوء، وأثناء أدائه للصلاة يحضر نيقولا نيقولا فيج ويخاطبه. أرجو منك المعذرة. كنت أظن أنكم قمتم بعملكم هذا قصد إهانتي، فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم. لذا أبطلت قرار الحكم بحقكم، إنكم تستحقون كل تقدير وإعجاب لصلاحكم وتقواكم. أرجو المعذرة فقد أزعجتكم وأكرر رجائي مرارا : أرجو المعذرة.

إنها عزة المؤمن الصادق، عزة من غير تكبر، إنه احترام للمبدإ الذي يعلو ولا يُعلى عليه، إنها قوة الإيمان التي فرضت الاحترام. فمن احترم مبدأه وقدره، احتُرم وقُدر ولو من خصمه.

- بديع الزمان سعيد النورسي نظرة عامة عن حياته وآثاره، لإحسان قاسم الصالحي، مطبعة النجاح الجديدة -الدار البيضاء،  طبعة 1419هـ- 1991م.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>